الصفحة الاخيرةصحيفة البعث

مُقارَنة

عبد الكريم النّاعم

حين انشغال المُهتمّ بالشأن الثقافي، يواجهه الكثير من المشكلات التي تحتاج للعودة إلى مراجِع مهمّة ليستند إليها، هذا إنْ كان من الذين يحرصون على تقديم ما هو نافع وصحيح، أمّا إذا كان من ذلك النّوع الذي لا يشغله أن يكون دقيقاً، أو نصف دقيق، أو يفتقر إلى الدّقة، فإنّه يكتب وينشر، بلا إحساس بالقيمة الموضوعية الأخلاقيّة، وهو بذلك يكون صورة عن سوق الفساد المُنتشر، بدل أن يكون جُرعة تتصدّى لجراثيم ما يفتك بالمجتمع،.. فإذا كان من الصّنف الأمين المؤتمَن فإنّه يعود إلى المَراجع، وهي كثيرة كثرة يتهيّب الإنسان مواجهتها، فقد تراكمت عبر مئات السنين، ونحن في زمن اللّحظة، أو اللّقطة السريعة، أو زمن الوجبات السريعة، ولا شكّ أن الاختراعات الحديثة قد سهّلت الأمور، فأنت تستطيع أن تذهب إلى “غوغل” وتسأله، لتجد “شبّيك لبّيك، عبدك حاضر بين يديك” قد انتصب أمامك على صيغة عدد من الأجوبة، بيد أنّها أجوبة يُفترَض ألاّ تؤخذ كلّها كمسلّمات، فصاحب المحرّك الباحث العملاق له انتماءاته، وميوله، وتفضيلاته، فهو يفضّل هذه على تلك لا بسبب البحث عن أيّها الحقيقيّ، بل لأسباب أخرى متشابكة لا يمكن الرّكون إليها بإطلاق، ومع ذلك فإنّ ما يضعه بين يديك لا يمكن الأعراض عنه، فبدَلاً من البحث عبر مئات الصفحات أو آلافها فهو بضغطة زرّ يعطيك عدداً من المعلومات، هذا التيسير في الحصول على المعلومة، يبدو أنْ لابدّ من تقديم ثمن تجاهه، فلم تعد الذّاكرة على الدرجة التي كانت عليها من الأهميّة، ويبدو أنّ ثمّة مَن يريد تبديدها، فقد أصبحت أسئلة الامتحانات لا ترتكز إلى ما استوعبه الطالب، أو حفظه، بل عليه أن يجيب بـ”نعم” أو “لا”، وفي ذلك الكثير من اعتقال الذاكرة وقدراتها لصالح الآلة، ألا ترون الرجل الآلي يغزو البيوت المُترفة في العالم؟!! فهو ينظّف البيت، ويقدّم الطعام، ويمرّض المريض، ويتسوّق ويعود إلى البيت، هذه الآليّة الصمّاء هي التي يُخشى منها أن تسود في قادم الأيام، وهذا الواقع الكوني جعلني أستذكر كيف كان عليه العلماء قديماً، حتى ليمكن القول أنّ بعضهم كان يحمل إمكانيات كمبيوتر، وقد عبّروا عن ذلك فقالوا “فلان مكتبة متنقّلة”، ورد في كتاب “زهر الآداب وثمر الألباب” (كان أبو عبد الله محمد بن زياد الأعرابي المُتوَفّى سنة 231 هجريّة، نحويّاً، عالماً باللغة والشعر، ولم يكن أحد من “الكوفيّين” أشْبَهَ روايةً برواية “البصريّين” منه، وكان يزعم أنّ الأصمعيّ وأبا عُبيدة لا يُحسنان قليلاً ولا كثيراً.

قال ثعلب: شاهدتُ ابن الأعرابي، وكان يحضر مجلسَه زُهاء مئة إنسان، كلٌّ يسأله، أو يقرأ عليه، ويجيب من غير كتاب، قال: “ولزمْتُه بضع عشرة سنة ما رأيتُ بيده كتاباً قطّ، وما أشكّ في أنّه أملى على النّاس ما يُحمَل على أجَمال).

قلتُ مرّة لابن أخي، ونحن نسكن في بناية واحدة، أبوه في الطابق الثالث، وأنا في الطابق الأرضي،.. قلت له قل لأبيك أنّني أريد أن أراه لأمر ضروري، وقال بأدب كبير: “حاضر عمي”، وصعد، وجلستُ أنتظر، وطال انتظاري، فاتّصلتُ هاتفيّاً، فردّ ابن أخي فسألتُه إنْ كان قد أبلغ أباه بما أريد، فضحك ضحكة باردة وقال بأدب: “عمّي نسيت”، عبر مسافة طابقين صعوداً على الدرج نسي ما طلبْتُه، فهل ثمّة علاقة بين ذاكرة ابن الأعرابيّ الآنف الذّكر، وذاكرة ابن أخي حماه الله!

الفارق ليس زمانيّاً، وليس نوعيّاً، بل هو يكاد يكون جوهريّاً، لا بسبب التكوين الفيزيولوجي الواحد، بل بسبب تبدّل الاهتمامات، وبسبب أرجحيّة الأولويّات، أنا أعرف أنّ الأزمنة ليست أزمنة “موسوعيّين”، بل أزمنة “اختصاصيّين”، وهذا ما تقتضيه طبيعة العصر بمعطياته المتسارعة التي توحي بأنّنا مقبلون على ما هو أشدّ إيغالاً في ذلك التّيه المتسارع، لدرجة أنّ أعمارنا أصبحتْ تُنفَق على كُوى الانتظار…

aaalnaem@gmail.com