مجلة البعث الأسبوعية

لماذا كل هذا الجنون الغربي من روسيا؟

“البعث الأسبوعية” ــ هيفاء علي

يبدو الاتحاد الأوروبي مدمناً بشكل ميؤوس منه على “الوضع السيئ” المتدهور مع روسيا، بعدما أخرجت رئيسة المفوضية الأوروبية، أورسولا فون دير لاين، برنامج التطعيم في بروكسل عن مساره، حيث أرسلت إلى موسكو طلبا من الشركات الأوروبية للحصول على حقوق الترخيص لإنتاج لقاح “سبوتنيك v” الذي سيوافق عليه الاتحاد الأوروبي قريباً. ومع ذلك، يفضل الأوروبيون الديمقراطيون الانغماس في الهستيريا، والترويج لأعمال وسلوكيات عميل الناتو نافالني.

في هذه الأثناء، لم يخف رئيس شركة ستراتكوم الأمريكية، الأدميرال تشارلز ريتشارد، احتمالية تفاقم أزمة إقليمية مع روسيا أو الصين قد تتحول بسرعة إلى صراع ينطوي على أسلحة نووية في حال كان هناك تهديد لسيادتهما، وذلك عبر ستار “الردع الاستراتيجي. وبالتالي، تقع مسؤولية الحرب التالية – والأخيرة بحسب الأمريكيين – على سلوك روسيا والصين “المزعزع للاستقرار”، واللتين ستخسران كما هو مفترض، وسوف تثوران غضباً فتلجآن إلى السلاح النووي، فيما سيكون البنتاغون الضحية.

ولكن، يبدو أن مخططي ستراتكوم لم يقرؤوا التحليل العسكري للخبير الروسي أندريه مارتيانوف، الذي كان لسنوات في طليعة من شرح بالتفصيل كيف أن الأنموذج الجديد الذي يفوق سرعة الصوت – وليس الأسلحة النووية – هو ما غير طبيعة الحرب، ويوضح مارتيانوف كيف أنه “ليس لدى الولايات المتحدة خيارات جيدة الآن”. ومع ذلك، فإن الخيار الأقل سوءاً هو التحدث إلى الروس، وليس التحدث عن الهراء الجيوسياسي والأحلام الرطبة التي يمكن للولايات المتحدة منخلالها إقناع روسيا بـ “التخلي عن الصين”، فالولايات المتحدة ليس لديها شيء تقدمه لروسيا للقيام به، ولكن على الأقل يمكن للروس والأمريكيين تسوية خدعة “الهيمنة” هذه سلمياً فيما بينهم، ثم إقناع الصين بالجلوس على طاولة الثلاثة الكبار، واتخاذ قرار حول كيفية إدارة العالم.. تلك هي الفرصة الوحيدة للولايات المتحدة لتبقى ذات صلة بالعالم الجديد.

وفي حين أن فرص الاتحاد الأوروبي في التعامل مع “الوضع غير الصحي” مع روسيا ضئيلة للغاية، ليس هناك ما يشير إلى أن ما وصفه مارتيانوف سيؤخذ بعين الاعتبار من قبل الدولة العميقة الأمريكية. ما يوحي بأن الطريق إلى الأمام حتمية: عقوبات دائمة، استمرار توسع الناتو على طول الحدود الروسية، تشكيل دائرة من الدول المعادية حول روسيا، التدخل الأمريكي الدائم في الشؤون الداخلية الروسية بجيش من الطابور الخامس، وحرب المعلومات.

وبالمقابل، سوف تستمر الحقائق على الأرض بالتراكم: سيتم الانتهاء من مشروع السيل الشمالي “نورد ستريم 2″، سواء أكان هناك عقوبات أم لا، وسيوفر الغاز الطبيعي الذي تشتد الحاجة إليه في ألمانيا والاتحاد الأوروبي، فيما سيبقى العميل نافالني في السجن، وسيستقبل مواطنو الاتحاد الأوروبي لقاح “سبوتنيك v”، وستستمر الشراكة الاستراتيجية بين روسيا والصين في التعزز.

 

الرهاب الروسي

لفهم كيف حدثت هذه الفوضى غير الصحية المتعلقة برهاب روسيا، تم توفير خارطة طريق أساسية من قبل حزب المحافظين الروسي، وهي دراسة جديدة مثيرة في الفلسفة السياسية بقلم جلين ديسن، الأستاذ المشارك في جامعة جنوب شرق النرويج، ومحاضر في كلية موسكو للاقتصاد.

يبدأ ديسن بالتركيز على الأساسيات: الجغرافيا والتضاريس والتاريخ، فيشير إلى أن روسيا قوة برية شاسعة لا تتمتع بوصول كافٍ إلى البحار. والجغرافيا تحدد أسس “السياسات المحافظة التي تحددها الأوتوقراطية، ومفهوم القومية الغامض والمعقد، والدور الدائم للكنيسة الأرثوذكسية”، ما يعني مقاومة “العلمانية الراديكالية”.

من المهم دائماً التذكير أن روسيا ليس لديها حدود طبيعية يمكن الدفاع عنها، فقد تم غزوها أو احتلالها من قبل السويديين والبولونيين والليتوانيين والمنغول وتتار القرم ونابليون، ناهيك عن الغزو النازي الذي كان دموياً للغاية. وفي طريق تحديث روسيا، لم يتسبب الغزو المغولي بحدوث انقسام جغرافي فحسب، بل ترك بصماته على السياسة: “لقد أصبح الحكم الأوتوقراطي ضرورة في أعقاب إرث المغول وتأسيس روسيا كإمبراطورية أوراسية ذات منطقة جغرافية شاسعة ضعيفة الاتصال”.

 

“شرق – غرب هائل”

هنا يشدد ديسن على أن روسيا هي ملتقى الشرق والغرب، وكان نيكولاي بيردييف، أحد أعظم المحافظين في القرن العشرين، قد أدرك ذلك جيداً، في عام 1947، عندما قال: “قد يكون التناقض والتعقيد في الروح الروسية بسبب حقيقة أنه في روسيا هناك تياران من تاريخ العالم – شرق وغرب – يتصارعان ويؤثران على بعضهما البعض.. وروسيا جزء كامل من العالم – شرق وغرب هائل”.

لقد غيرت السكك الحديدية العابرة لسيبيريا المعطيات، وهي التي بُنيت لتقوية التماسك الداخلي للإمبراطورية الروسية، وإبراز قوتها في آسيا: “مع استمرار توسع المستوطنات الزراعية الروسية نحو الشرق، تحل روسيا على نحو متزايد محل الطرق القديمة التي كانت تربط أوراسيا سابقاً.

إنه لأمر رائع رؤية كيف بلغ تطور الاقتصاد الروسي ذروته في نظرية “هارتلاند” (قلب العالم) لماكيندر: “السيطرة على العالم استلزمت السيطرة على القارة الأوروبية الآسيوية”.. ما أرعب ماكيندر هو أن السكك الحديدية الروسية التي تربط أوراسيا ستقوض بنية القوة الكاملة لبريطانيا كإمبراطورية بحرية.

ويشرح ديسن أيضاً كيف أن النزعة الأوراسية – التي ظهرت في عشرينيات القرن الماضي بين المهاجرين، رداً على ثورة عام 1917 – كانت في الواقع تطوراً للنزعة المحافظة الروسية.

لم تصبح الأوراسية، لأسباب عديدة، حركة سياسية موحدة. ففي قلب الأوراسية فكرة أن روسيا لم تكن مجرد دولة في شرق أوروبا. وبعد غزو المغول في القرن الثالث عشر، وغزو ممالك التتار في القرن السادس عشر، لم يكن ممكناً أن يكون تاريخ روسيا وجغرافيتها أوروبيين بشكل فريد.. سيتطلب المستقبل نهجاً أكثر توازناً – والشراكة مع آسيا.

ولقد صاغ دوستويفسكي ذلك ببراعة قبل أي شخص آخر، في عام 1881: “الروس آسيويون بقدر ما هم أوروبيون. لقد كان خطأ سياستنا خلال القرنين الماضيين جعل المواطنين الأوروبيين يعتقدون أننا أوروبيون حقيقيون. لقد خدمنا أوروبا بشكل جيد للغاية، وأخذنا الكثير من صراعاتها الداخلية، انحنينا مثل العبيد للأوروبيين، وكسبنا فقط كراهيتهم واحتقارهم. حان الوقت للابتعاد عن أوروبا الناكرة للجميل.. مستقبلنا في آسيا”.

وكما يشرح ديسن، فقد قدم جوميليف نوعاً من الطريق الثالث بعيداً عن القومية الأوروبية والأممية الطوباوية، وتم إنشاء جامعة ليف جوميليف في كازاخستان، فيما أطلق بوتين على جوميليف لقب “الأورو – آسيوي العظيم في عصرنا”.

زيادة على ذلك، يذكر ديسن أنه حتى جورج كينان اعترف، في عام 1994، بنضال المحافظين من أجل “هذا البلد المجروح بشكل مأساوي والمتضائل روحياً”، في حين كان بوتين، في عام 2005، أكثر وضوحاً عندما أكد: “كان انهيار الاتحاد السوفييتي أعظم كارثة جيوسياسية في القرن، وبالنسبة للشعب الروسي كان مأساة حقيقية، فقد تم تدمير المثل القديمة، وتم تفكيك العديد من المؤسسات أو إصلاحها ببساطة على عجل. ومع سيطرة غير محدودة على تدفق المعلومات، خدمت مجموعات الأوليغارشية حصرياً مصالحها التجارية الخاصة. بدأ قبول الفقر الجماعي كقاعدة، وقد تطور كل هذا في سياق أشد ركود اقتصادي، وأشد اضطراب مالي، وأقسى شلل في المجال الاجتماعي”.

 

المسألة الأوروبية الحاسمة

في التسعينيات، تحت قيادة الأطلسيين، ركزت السياسة الخارجية الروسية على أوروبا الكبرى، وهو مفهوم يستند إلى البيت الأوروبي المشترك الذي نادى به غورباتشوف.

ومع ذلك، من الناحية العملية، جاءت أوروبا بعد الحرب الباردة لتشكيل نفسها على أنها توسع مستمر لحلف شمال الأطلسي، وولادة – وتوسع – الاتحاد الأوروبي. تم نشر جميع أنواع التشويهات الليبرالية لتشمل كل أوروبا مع استبعاد روسيا. ويلخص ديسن الأمر في جملة واحدة: “مثلت أوروبا الليبرالية الجديدة استمرارية أنغلو أمريكية من حيث حكم القوى البحرية، وهدف ماكيندر هو تنظيم العلاقة الألمانية الروسية بطريقة تمنع تضارب المصالح بين البلدين.

في عام 2005، شدد بوتين على أن “روسيا كانت وستظل بالطبع قوة أوروبية عظمى”. ما أراده هو فصل الليبرالية عن سياسات القوة من خلال رفض المبادئ الأساسية للهيمنة الليبرالية.

يشير ديسن إلى أنه إذا كان الاتحاد السوفييتي “أوروآسيوياً يسارياً راديكالياً، فقد يتم نقل بعض خصائصه الأوروآسيوية إلى الأوروآسيوية المحافظة”. وهنا يذكر ديسن كيف أظهر سيرجي كاراجانوف – الذي يُطلق عليه أحياناً اسم “كيسنجر الروسي” – أن “الاتحاد السوفيتي كان في مركز إنهاء الاستعمار، وأنه كان مهندس نهوض آسيا من خلال حرمان الغرب من القدرة على فرض إرادة المرء على العالم بالقوة العسكرية، وهو ما فعله الغرب من القرن السادس عشر حتى الأربعينيات من القرن العشرين”. هذه الحقيقة معترف بها على نطاق واسع في أجزاء كبيرة من الجنوب العالمي، من أمريكا اللاتينية وأفريقيا إلى جنوب شرق آسيا.

 

شبه جزيرة أوراسيا الغربية

وهكذا، بعد نهاية الحرب الباردة وفشل أوروبا الكبرى، فإن محور موسكو في آسيا لبناء أوراسيا الكبرى لا يمكن إلا أن ينطوي على شيء من الحتمية التاريخية.

وهو منطق لا هوادة فيه: قطبا أوراسيا الجغرافيان الاقتصاديان هما أوروبا وشرق آسيا. تريد موسكو ربطهما اقتصادياً بقارة عظمى: هذا هو الفضاء الذي تنضم فيه منطقة أوراسيا الكبرى إلى “مبادرة الحزام والطريق” الصينية. ولكن هناك أيضاً بُعد روسي إضافي، كما يشير ديسن: “الانتقال من المحيط المعتاد لمراكز القوة هذه إلى مركز بناء إقليمي جديد”. من وجهة نظر محافظة، يشير ديسن إلى أن “الاقتصاد السياسي لأوراسيا الكبرى يمكّن روسيا من التغلب على هوسها التاريخي بالغرب وإقامة مسار روسي عضوي للتحديث”، بما يشمل تطوير الصناعات الإستراتيجية وممرات الاتصال والأدوات المالية ومشاريع البنية التحتية لربط روسيا الأوروبية بسيبيريا وروسيا الهادي، وكل ذلك في ظل مفهوم جديد: اقتصاد سياسي صناعي محافظ. نشطت الشراكة الاستراتيجية بين روسيا والصين في هذه القطاعات الجغرافية الاقتصادية الثلاثة: الصناعات الاستراتيجية، المنصات التكنولوجية، وممرات الاتصال، والأدوات المالية.

هذا يدفع بالمناقشة، مرة أخرى، نحو الحتمية المطلقة الأسمى: المواجهة بين “هارتلاند” والقوة البحرية.

كانت القوى الأوراسية الثلاث الكبرى، تاريخياً، هي السيثيان والهون والمغول. والسبب الرئيسي لتفككها وانحلالها هو أنها لم تكن قادرة على الوصول – والسيطرة – على الحدود البحرية لأوراسيا. وكانت القوة الرابعة الرئيسية في منطقة أوراسيا هي الإمبراطورية الروسية، وخليفتها الاتحاد السوفييتي. انهار الاتحاد السوفييتي لأنه، مرة أخرى، لم يتمكن من الوصول – والسيطرة – على الحدود البحرية لأوراسيا.

من المعروف أن الاستراتيجية الشاملة للولايات المتحدة في البحر، وكذلك السبب الرئيسي لدخول الولايات المتحدة الحربين العالميتين الأولى والثانية، كانت لمنع ظهور هيمنة أوراسية بكل الوسائل الضرورية.

ويشير ديسن إلى أن “دفع روسيا في الماضي إلى آسيا أدى إلى وضع روسيا في حالة من الغموض الاقتصادي وإزالة وضعها كقوة أوروبية”. ولكن الآن، مع تحول مركز الثقل الجغرافي الاقتصادي إلى الصين وشرق آسيا، فاللعبة جديدة تماماً.

إن استمرار تشويه وشيطنة صورة روسيا والصين من قبل الولايات المتحدة، إلى جانب همينة فكرة “الوضع السيئ” مع روسيا على قادة الاتحاد الأوروبي، لا يؤدي إلا إلى تقريب روسيا من الصين، تماماً مثل الهيمنة العالمية للغرب، والتي استمرت قرنين فقط، وهي على وشك الانتهاء. ويتوقع ديسن أن “العلاقات بين روسيا والغرب ستتغير أيضاً بمرور الوقت مع صعود أوراسيا”. إن استراتيجية الغرب المعادية لروسيا مشروطة بفكرة أن روسيا ليس لديها مكان تذهب إليه، وأن عليها قبول كل ما يقدمه الغرب من حيث “الشراكة”. صعود الشرق يغير جذرياً علاقة موسكو بالغرب من خلال السماح لروسيا بـ “تنويع شراكاتها”.

ربما اقترب الوقت الذي تقدم فيه روسيا في أوراسيا الكبرى لألمانيا العرض التالي: إما أن نبني هارتلاند” أي “قلب العالم” معاً، أو نبنيها مع الصين، عندها ستكون ألمانيا مجرد متفرج على التاريخ مع احتمال وجود محور بين برلين وموسكو وبكين.

في غضون ذلك، يبدو ديسن مقتنعاً بأن “القوى البرية الأوراسية ستدمج في النهاية أوروبا ودول أخرى على الأطراف الداخلية لأوراسيا. وستتحول الولاءات السياسية تدريجياً مع تحول المصالح الاقتصادية شرقاً، وتصبح أوروبا تدريجياً شبه الجزيرة الغربية لأوراسيا الكبرى”.