مجلة البعث الأسبوعية

ما وراء القضبان.. الأيادي الخيرة تصنع الإنجازات داخل أسوار سجن دمشق المركزي!!

“البعث الأسبوعية” ــ يارا شاهين

كثيرون يعملون بعيداً عن الأضواء، لا يبتغون مالاً ولا شهرةً، متميزون في أهدافهم، إنسانيون في مبتغاهم.. بعض هؤلاء جمعهم العمل الخيري ليثمر داخل أسوار سجن دمشق المركزي، على الرغم من كون السجون مكاناً يسلب الأفراد حريتهم، إلا أن جمعية رعاية المساجين وأسرهم في دمشق، بالتعاون مع وزارة الداخلية، سعت إلى جعل حياة السجين أكثر من مجرد انتظار، وحولت السجون من دور للتوقيف والحجز إلى دور للإصلاح وإعادة التأهيل؛ وفي وقت أشاد العميد مقبل عبد الله الحمصي، رئيس فرع سجن دمشق المركزي، بالجهود التي يبذلها أعضاء الجمعية، كشف في حديثه لـ “البعث الأسبوعية” عن اتباع إدارة السجن آلية جديدة للتعامل مع الجمعية، وذلك من خلال تكليف ضباط إشراف وتنسيق بين إدارة السجن وإدارة الجمعية، حيث هناك ثلاثة ضباط مكلفين بمتابعة الملف القانوني، وملف الإعانات المقدمة من الجمعية للنزلاء وأسرهم، إضافة إلى المتابعة والإشراف الدائم على الملف الخدمي وما تقدمه الجمعية للمنشأة.

 

ثلاث محاور

تتركز خدمات الجمعية داخل السجون في ثلاثة محاور أساسية: الخدمات القانونية، والرعاية الاجتماعية والصحية، بالإضافة إلى النشاطات، وذلك وفقاً لرئيس مجلس إدارتها، الدكتور جهاد الصباغ، الذي بين لـ “البعث الأسبوعية” أن الخدمات القانونية تتمثل بتقديم المساعدة القانونية اللازمة للنزلاء والنزيلات عن طريق عدد من الأساتذة المحامين المتطوعين لدى الجمعية، والبالغ عددهم 14 محامياً ومحامية يقدمون خدمات إخلاء سبيل، وتسويات إنهاء مدة حكم، ودفع الغرامات، وتشميل العفو، مشيراً إلى أنه، خلال عام 2020، تقدم للجمعية أكثر من 3500 طلب من النزلاء، تمت دراستها من قبل محامي الجمعية وتقديمها للجهات القضائية المختصة، بالإضافة إلى الجهود التي بذلتها الجمعية لإخلاء سبيل 300 نزيل ودفع الغرامات المترتبة عليهم.

وبين الصباغ أن أهم الخدمات الصحية التي تقدمها الجمعية لنزلاء السجن تتمحور حول الأدوية المجانية، والتحاليل الطبية، والنظارات، وإصلاح الأسنان، لافتاً إلى أنه خلال جائحة كورونا تم تجهيز قسم كامل من أجل الحجر الصحي في مشفى السجن، مؤكداً عدم تسجيل أي حالة إصابة بالفيروس حتى اللحظة، كما أن هناك خدمات عامة تقدمها الجمعية من خلال مرافقها المنتشرة داخل السجن (صالون حلاقة – ورشات غسيل – بوفيهات – ندوات – مطاعم – معمل حلويات – ورشات فنية – المشروع الزراعي)، وكذلك أمنت الجمعية للنزلاء وسائل ترفيه مثل اشتراك الجمعية بالقناة الرياضية Bein Sport، وبثها في غرف النزلاء، ما يسمح لهم بمتابعة الدوري الرياضي، بالإضافة إلى أن الجمعية تستقبل النزلاء الجدد، وتقدم لهم كل ما يحتاجونه من مناشف وصابون وأدوات للحلاقة، وتأمين الاتصالات الهاتفية ليتواصلوا مع ذويهم خارج السجن، مشيراً إلى أن تكلفة الخدمات التي تقدمها الجمعية تقدر بـ40 مليون ليرة شهرياً.

وأوضح الصباغ أن الإعانة الشهرية لعائلات النزلاء تتراوح ما بين 10 آلاف و15 ألف ليرة، ويتم تحديدها لمن يثبت فقرهم وفق معايير محددة من قبيل “عدم امتلاكهم لمنزل، وعدد أفراد الأسرة، ووجود دخل ثابت، وغيرها، مؤكداً أن الجمعية قدمت حوالى 8 مليون ليرة لأسر النزلاء خلال عام 2020، وزعت على 600 عائلة.

شريك فاعل

واعتبر العقيد أيهم حمدان رئيس قسم التوجيه والتأهيل أن جمعية رعاية المساجين وأسرهم بدمشق شريك فاعل داخل السجون، وذلك من خلال الخدمات التي تقدمها للنزلاء، مشيراً إلى مساعدتها للنزلاء فقيري الحال الذين لا يستطيعون تكليف محام لمتابعة قضاياهم داخل المحاكم، أو لوجود ذويهم في محافظة أخرى، ما دفع أعضاء الجمعية من المحامين إلى متابعة قضاياهم بأنفسهم، إضافة إلى الدعم الذي تقدمه لمدرسة السجن من قرطاسية وكتب مدرسية تشجع النزلاء على متابعة تحصيلهم الدراسي، مبيناً أن آلية التعاون مع جمعية رعاية المساجين وأسرهم تتم من خلال كتب تقدم من إدارة السجن عن طريق قسم الشؤون الإدارية إلى الجمعية، التي تدرس بدورها الطلبات المقدمة من قبل اللجنة الخدمية، وتقوم بالتنفيذ بناءً على الإمكانيات اللازمة.

 

مرافق

ونوّه العقيد زياد رئيس قسم الشؤون الإدارية إلى أن الجمعة تحقق دخلاً من استثمار مرافق السجن (ورشات الغسيل – البوفيهات – الندوات – المطاعم – معمل الحلويات – محال الألبسة والأحذية)، حيث يوجد داخل كل جناح بوفيه يقدم المأكولات الجاهزة، ومحلات مخصصة لبيع جميع المواد الغذائية، وورشات غسيل تعنى بتقديم خدمات للنزلاء، وذلك مقابل مبلغ مادي زهيد، وأوضح أن جميع هذه المرافق تدار من قبل نزلاء يعتبرون موظفين في الجمعية مقابل رواتب متواضعة، ونسبة ربح 1% فقط، كما أنه يوجد خارج الأجنحة – ضمن السجن – مطعم يقدم الوجبات للنزلاء وفق نشرة أسعار وزارة التجارة الداخلية وحماية المستهلك، وتشمل الوجبات لحوماً ووجبات مطبوخة متنوعة، وكذلك هناك معمل لصناعة الحلويات، ومحلات للخضروات والفواكه ولبيع الخرز، وأخرى متنوعة توفر للنزلاء ملابس وأحذية وغيرها، وكل المنتجات تقدم للنزلاء بأسعار مدروسة.

وأشار إلى أن إدارة السجن تشرف على جميع المرافق الموجودة في السجن، لجهة المراقبة وتعيين العمال من النزلاء، أو حتى فصلهم، وكذلك مراقبة الجودة والأسعار.

 

العلم نور

علي، شاب بعمر الورود، لم تحبط عزيمته لمجرد وجوده داخل أسوار السجن، فقرر متابعة دراسته، والتحق بمدرسة، وزودته جمعية رعاية المساجين وأسرهم بالكتب والقرطاسية اللازمة، وحصل على شهادة الثانوية العامة للفرع الأدبي، بمعدل 2095 درجة، والتحق بكلية الحقوق بجامعة دمشق، وسيتابع حياته الجامعية بعد خروجه من السجن بعد شهرين تقريباً، منوهاً إلى تكريمه من قبل إدارة الجمعية لنجاحه في الشهادة الثانوية، وتم ذلك في حفل في ساحة السجن. وأشار علي إلى امتلاكه موهبة الرسم، وأنه يقدم طلبات دورية لإدارة السجن للحصول على أدوات ومعدات للرسم لصقل موهبته، وتنمية مهاراته، وأنه يحتفظ ببعض لوحاته لحين انتهاء فترة محكوميته، ويقول: “أحاول أن أجعل فترة محكوميتي مفيدة، لذلك اتبعت دورات مايكروفست داخل السجن بدعم من الجمعية وإدارة السجن”.

عمران (25 عاماً) طالب في الثانوية العامة داخل مدرسة سجن دمشق المركزي، وفرت له الجمعية الكتب والدفاتر والأقلام، وقدمت له الدعم الكامل، ويرغب بالالتحاق بالكليات العلمية، مشيراً إلى أنه يعمل في أحد مرافق السجن، ويتلقى أجراً متواضعاً لقاء ذلك من إدارة الجمعية.

مازن نزيل في سجن دمشق المركزي منذ 2014، وكونه لا يملك أي شهادة أو مهنة يتمسك بها لذلك اتبع العديد من الدورات التدريبية، بدءاً من محو الأمية، ثم الشهادة الإعدادية والشهادة الثانوية، والتحق بكلية الحقوق وساعدته الجمعية على تأمين المحاضرات، منوهاً إلى امتلاكه موهبة كتابة النصوص المسرحية، ويتم تقييم هذه النصوص لاختيار النص الأنسب، ويقدم في المركز الثقافي التابع للسجن خلال فعاليات أو نشاطات مسرحية معينة.

 

النزيل المبادر

عدنان (63 عاماً) أحد نزلاء سجن دمشق المركزي، لقب بالسجين المخترع، فقد صنع سيارة صغيرة من الخردوات الموجودة داخل السجن، ما ساعد في ترحيل القمامة خارج السجن، يقول: “كنت أعمل ميكانيكياً قبل دخولي السجن، واستفدت من تجاربي السابقة، ومن دعم الجمعية المستمر بتوفيرها الأدوات والمعدات اللازمة”.

وأشار عدنان إلى أنه صنع سابقاً غسالة كهربائية، ومجففاً للملابس، وعلى الرغم من كونه لا يمتلك أية خبرة في المجال الكهربائي، إلا أنه نجح في ذلك.

وأضاف عدنان أنه في ظل انتشار جائحة كورونا اخترع جهازاً للتعقيم يعتمد على بخار الماء، فيتم رفع حرارة الماء إلى درجة معينة بالاعتماد على تقنية محددة، ما يساعد على التخلص من الفيروسات والميكروبات.

 

على أرض الواقع

وفي السياق ذاته، أبدى نزيه (34 عاماً) إعجابه بمكتبة السجن التي يقضي فيها أغلب أوقاته، حيث ينمي حبه للمطالعة من خلال قراءة كتب متنوعة، ولكتاب عالميين مثل “الأغاني”، و”تاريخ الطبري”؛ وكذلك عبر نزيه عن حبه للرياضة ومشاركته بالمباريات الرياضية التي تقام داخل السجن تحت إشراف إدارة السجن، وأن هناك مدربين رياضيين يتابعون الفعاليات الرياضية، منوهاً إلى بث الجمعية لمباريات الدوري من خلال اشتراكهم بقناة رياضية، ووجود أجهزة تلفزة في غرف النزلاء ما يبقيهم على اطلاع دائم على أخبار كرة القدم العربية والعالمية. وأشار نزيه أنه يتلقى إعانة شهرية من إدارة الجمعية تقارب 2000 ليرة شهرياً.

أما حسام (55 عاماً)، وهو مريض سكري من النمط الأول، ويعاني من ارتفاع ضغط الدم، وضعف بالأعصاب، فيتلقى شهرياً جميع أدويته من إدارة الجمعية مجاناً، ويسعى للحصول على الإعانة الشهرية كونه بعيداً عن أفراد أسرته.

قصص كثيرة سمعناها داخل أسوار سجن دمشق المركزي، وقصص أخرى ستروى لغيرنا عن أشخاص دفعوا حريتهم ثمناً للشمس، ولكن يبقى العطاء ركناً ثابتاً في الحياة، ليتفعل دور الأيادي الناعمة التي تترجم أهدافها لأفعال، وهنا يستحضرني قول الكاتب ألبرتو “إصلاح المجرم لا الاقتصاص منه هو هدف العدالة”.