اقتصادصحيفة البعث

القضايا الجمركية.. دعاوى عالقة في المحاكم وأحكام بالملايين بددها غبار المستودعات!

بين تأخير التقاضي وتعطّل التنفيذ وضياع ملايين الليرات، تواجه الدعاوى الجمركية – التي لا يخفى على أحد أنها من أهم روافد الخزينة العامة – عقبات كثيرة، بدءاً بالتبليغ، وختاماً بالتنفيذ، فعادة ما تكون الدعاوى التي تكون الدولة طرفاً فيها أكثر بطئاً للتعقيدات الإدارية، إلا أن هذا لا يشفع لدعاوى بأهمية الجمركية أن يرقد بعضها لسنوات في المحاكم حتى تكون المبالغ فقدت قيمتها مع التغيرات الحاصلة بين يوم وآخر، فضلاً عن المماطلة في التنفيذ حتى تراكمت آلاف أضابير الدعاوى المفصولة لصالح الجمارك في المستودعات، وسقطت بالتقادم بعد مضي 15 عاماً لعدم تنفيذها.

هي أشبه بمتاهة، هذا أقرب وصف لحال الدعاوى بعد أكثر من شهرين من متابعتنا آلية التقاضي بين مديرية الجمارك والمحاكم الجمركية وإدارة قضايا الدولة، فكانت لكل منها انتقادات لباقي الجهات، وكلما حاولت واحدة من تلك الجهات القيام بإجراء ما، اصطدمت بعرقلة من البقية، فرغم التأكيد على إيجابية التنسيق والتعاون، إلا أننا وجدنا في التفاصيل خللاً واضحاً في معالجة القضايا، ومع ذلك فإن كل ما تبيّن من معوقات قابلة للإصلاح والتدارك، فلماذا التغاضي عنها كل هذه المدة؟! وإن كان الهدف فعلاً تحصيل الدعاوى الكبيرة، فماذا عن الدعاوى الصغيرة التي يمكن لمجموعها معاً أن يشكّل رافداً ضخماً للخزينة؟!.

عناوين مجهولة

“لا يوجد تأخير في الدعاوى إلا..”، ولكن ما يأتي بعد “إلا” غالباً ما ينطبق على جزء كبير من الدعاوى لتنضم إلى قائمة العرقلة والمماطلة، وفي مقدمة المعوقات تأتي التبليغات والعناوين، ثم إجراءات التقاضي المعتادة من المهل والاستئناف وغيرها، حيث رأى رئيس إدارة قضايا الدولة المستشار صلاح ونوس أن سبب التأخير في الدعاوى يكمن في التبليغات لجهة عنوان المدعى عليه، فالكثير من الضبوط الواردة تكون بلا عنوان واضح، أو يكون العنوان بمكان تسجيل الضبط وليس عنوان الشخص، ما يسبب إرباكاً للإدارة وللمحكمة بالدرجة الأولى، فالضبط هو العامل الأساس في فصل الدعوى.

إشكالية التبليغات تحدث عنها المستشار في محكمة الاستئناف الجمركية القاضي ياسين قزاز حين اعتبر في حديثه لـ “البعث” أن أهم سبب للبطء هو ورقية التبليغات، فـ 70% من التأخير بفصل ونظر الدعاوى متعلقة بالتبليغات، فضلاً عن المماطلات، كما أنه توجد قضايا محققة في المحكمة يتم التأخير برفعها ثلاث أو أربع سنوات، وهنا تقع الإشكالية بين إدارة الجمارك وقضايا الدولة، فالكثير من العناوين تكون قد تغيرت، وبذلك يصعب التبليغ للطرف الآخر، لافتاً إلى مقترح باسم “العنوان الوطني”، أي أن يكون لكل شخص عنوان ثابت في السجل المدني، وقابل للتجديد في أي وقت.

مراسلات

وأوضح قزاز أن الدعاوى التي تكون الدولة طرفاً فيها عادة تطلب وقتاً أكثر من بقية الدعاوى، والسبب بذلك أن إدارة قضايا الدولة- الممثّلة للجمارك- جهة رسمية، أي أنها لا تملك الوثائق، بل تعمد إلى المراسلات مع الجهة الحكومية الطرف في الدعوى، فضلاً عن ظروف بعض الدعاوى التي تتطلب مراسلات مع دول أجنبية لتأمين بعض الوثائق.

تحسن

معاون مدير الجمارك فيصل علي أشار في لقائه مع “البعث” إلى تحسن الوضع مؤخراً بالنسبة لأقسام القضايا لجهة متابعة الدعاوى، وزيادة التحصيل، موضحاً أن عدد القضايا في 2020 بلغ 2713 قضية، حصّلت منها غرامات بقيمة 18 مليار ليرة تقريباً، فيما تبقى 45 مليار ليرة غرامات غير محصّلة، مبيّناً أن ثلثي القضايا حوّلت للمحكمة، وكانت تشمل: ألبسة، ومستحضرات تجميل، وكهربائيات، ومشروبات روحية، وسيارات مزورة، وحشيشاً، ومخدرات، ومواد ممنوعة.

وفيما تشكّل الأتمتة عاملاً أساسياً في سرعة الإجراءات وتنظيمها، أكد علي على إنجاز أتمتة البيانات، وتعميم قرارات الحجز ومنع السفر عبر المنظومة الالكترونية بين الجمارك وباقي الدوائر المعنية كالهجرة والجوازات، والدوائر المالية، كذلك بين المديرية العامة وباقي المديريات، فيما يتم التوجه الآن لأتمتة القضايا وتصنيفها وأرشفتها عبر المنظومة الالكترونية لتبسيط الإجراءات، واختصار الوقت، والدقة في المعلومات.

مصالحات 

بحسب بيانات إدارة قضايا الدولة فإن عدد الدعاوى الواردة في 2020 بلغ 7045 دعوى، فصل منها حوالي 3344 دعوى، أكثرها في دمشق وريفها 1226 دعوى، بقيمة 45 مليار ليرة، وفي حلب 233 دعوى، و619 في حمص، و594 في اللاذقية، وفي حماة 100 دعوى، أما المبالغ المحكوم بها لصالح الجمارك فهي 118 مليار ليرة من الدعاوى الرابحة، غير أنها لم تكتسب الدرجة القطعية بعد، وقد تكون تمت المصالحة على جزء كبير منها، فالكثير من الدعاوى التي تكون قائمة في المحكمة يقرر الخصم أثناء المحاكمة أن يقوم بتسوية، ويتجه للمصالحة مع الجمارك، فيما بلغت المبالغ المحصّلة من الإدارة حتى الآن 934 مليون ليرة.!

وأشار المستشار صلاح ونوس إلى أن لائحة الادعاء التي يعدها محامي الدولة تكون جاهزة للتسجيل بالمحكمة خلال أسبوع واحد على الأكثر من ورود الضبط، وإن كان يوجد موقوف، فهي تنجز باليوم ذاته، مضيفاً بأنه لا توجد أولويات في الدعاوى، إلا أن ذات القيمة الكبيرة من الطبيعي أن تأخذ اهتماماً وجهداً أكبر.

اختزال الوقت 

عدة أشهر مضت منذ انتقال المحاكم الجمركية إلى مبنى مديرية الجمارك بدمشق، وهي خطوة لم تكن مرتجلة، بل تأخر تنفيذها سنوات عدة، والغاية الأساسية منها اختصار الوقت والإجراءات، وهنا أشار القاضي قزاز إلى السرعة والآنية في التواصل بين الطرفين، وحُلّت الإشكالية المتعلقة بنقل الموقوفين بين الضابطة والمحكمة والقصر العدلي، مبيّناً أن نسبة الموقوفين حالياً من مجمل القضايا لا تتجاوز 10%، أما فيما يتعلق بانتقال الشعبة الجمركية في إدارة قضايا الدولة إلى مديرية الجمارك أيضاً، فبيّن المستشار صلاح ونوس أن العائق الوحيد الآن هو تأمين المكان الملائم، والعدد الكافي من المكاتب، فالشعبة الجمركية تتضمن 5 محامين، إضافة لمحامين مؤازرين بالقسم ما بين استئناف وبداية، و10 موظفين، معتبراً أنه حتى في حال وجود الشعبة الجمركية في الجمارك فلن يخلو الأمر من التأخير، إذ إن الكتب الرسمية ستمر إلزاماً لتسجل في الديوان، سواء كانت قريبة أو بعيدة.

بدوره رأى معاون مدير الجمارك أن انتقال المحكمة الجمركية إلى المديرية لم يحقق الغاية المرجوة أو أية قيمة مضافة فيما يخص القضايا الجمركية، معتبراً أن ذلك لن يتحقق إلا بانتقال قضايا الدولة أيضاً، لأنها صلة الوصل بين مديرية الجمارك والمحكمة الجمركية، فعندما تم اتخاذ قرار الانتقال كان يشمل كلاً من المحكمة وقضايا الدولة، وفق دراسة وتوزع مكاتب متفق عليهما، غير أن ما حدث هو انتقال المحاكم فقط.

مصيرها المستودعات!

لا يمكن اعتبار فصل الدعوى وإصدار الحكم فيها معياراً للتنفيذ، فالتقاضي ليس سوى المرحلة الأولى قبل أن تأتي المرحلة الأكثر إشكالاً وهي تنفيذ الأحكام، إذ كشف القاضي ياسين قزاز عن تقصير الجمارك في التنفيذ، إذ إن توصيف المحاكم الجمركية بأنها مدنية جعلها غير قادرة على تنفيذ الحكم من تلقاء نفسها، وبذلك يكون من ربح الدعوى هو المعني بمتابعة التنفيذ، غير أن الجمارك، برأيه، تركّز بشكل خاص على الدعاوى ذات المبالغ الكبيرة، موضحاً أن مدة تقادم الحكم القضائي في الجمارك 15 سنة، فإن لم يُتخذ إجراء بشأن الحكم يسقط بالتقادم، وهذا مصير الكثير من الدعاوى.

فيما بيّن المستشار ونوس أن إدارة القضايا ترسل القرارات للجمارك لإكسابها الدرجة القطعية، وتوضع في التنفيذ الجزائي لدى المديرية، إلا أنه في بعض الدعاوى الهامة تطلب الجمارك من الإدارة أن تتولى التنفيذ، مؤكداً أن الإدارة تنفذ الأحكام لمعظم دوائر الدولة، وهي جاهزة لتنفيذ أحكام الجمارك في حال وجود “مطرح” للحجز.

بدوره لم ينكر معاون مدير الجمارك فيصل علي وجود عرقلة في التنفيذ، إلا أنه عزاها لعدد الدعاوى الكبير التي يتم العمل على استدراكها عبر خطة لزيادة الكوادر في أقسام التنفيذ في المديريات، حيث توجد أقسام تنفيذ في كل مديرية، وتفتح إضبارة لكل حكم مبرم، وتتولى الأقسام تنفيذها، مؤكداً على التوجه الجاد لحل الدعاوى المتراكمة، وتنفيذ الأحكام المتراكم منها والحديث، حيث تتم متابعة إجراءات تنفيذ جميع الأحكام من خلال دوائر تنفيذ الأحكام الجزائية، وتتم كذلك مراسلة المصالح العقارية ودوائر النقل للبحث عن أية ممتلكات للمخالفين يمكن التنفيذ عليها مدنياً، إلا أن إجراءات التنفيذ المدني متشابكة وتأخذ وقتاً طويلاً، وقد أكد على وجود تأخير في فصل الدعاوى، مطالباً في الوقت ذاته بالسرعة بإنجاز الدعاوى في وزارة العدل، لاسيما القضايا الهامة والحساسة ذات الغرامات العالية، معتبراً أن على إدارة قضايا الدولة تقديم طلبات تقصير مهل في هذه القضايا.

وأوضح علي أن إدارة قضايا الدولة هي من تمثّل الجمارك، وتتابع سير الدعوى، حتى فيما يتعلق بدعاوى المخاصمة، وهي من تتبلّغ بالأحكام المبرمة، مؤكداً على ضرورة زيادة التنسيق من خلال موافاة المديرية بشكل دوري بالأحكام الصادرة ليصار إلى استكمال إجراءات التنفيذ لتحصيل المبالغ، حيث يوجد تأخير في تبليغ المديرية بالقرارات الصادرة للصالح لعدة سنوات، فيما تتابع الجمارك جميع الملفات لدى قضايا الدولة والمحاكم، وهناك عشرات القضايا لدى المحاكم الجمركية، مجموع المبالغ المطالب بها لكل قضية يفوق المليار ليرة.

حجز تعسفي!

وشدد علي على تدابير المديرية الاحترازية للتنفيذ كمنع السفر والحجز الاحتياطي، على اعتبار أن منع السفر أو الحجز الاحتياطي يشكّل دافعاً لدى الخصم للتنفيذ، ضماناً لحقوق الخزينة، وخوفاً من تهريب أمواله للغير، أو المغادرة خارج البلاد، مؤكداً أنه بعد اعتماد المنظومة الالكترونية لقرارات الحجز في الشهر الأول من عام 2019، أصبحت جميع الضبوط تتضمن مفصّل هويات وعناوين المخالفين بشكل دقيق من خلال الربط مع بوابة السجل المدني.

وفيما أكدت مديرية الجمارك أن قرارات الحجز ومنع السفر تأخذ صفة القرارات المستعجلة، وهي تدابير احترازية وليست قرارات نهائية، إلا أن القاضي ياسين قزاز أبدى تحفظه على إلقاء الحجز ومنع السفر من قبل مديرية الجمارك ووزارة المالية، إذ أصبحت بذلك خصماً وحكماً في آن واحد، فهي تشكّل طرفاً بالدعوى، وهي في الوقت نفسه قادرة أن تمنع سفر الخصم، مشيراً إلى ورود دعاوى كثيرة فيها تعسف بقرارات منع السفر أو الحجز، كأن تطالب الجمارك بغرامة قدرها مليون ليرة مثلاً، وبالمقابل تحجز عقارات بمليار ليرة، فالأفضل برأيه أن يكون هذا الأمر بيد المحاكم الجمركية، كما الأمر في المحاكم المصرفية.

خصومة حقيقية

ووفقاً للقزاز فإن المدة الوسطية لفصل الدعاوى الجمركية عام تقريباً، إن لم يحدث أي طارىء، ولا يوجد تأخير في الدعاوى من طرف المحكمة، مؤكداً على سرعة الإنجاز والفصل في القضايا، حيث وردت إلى محكمتي الاستئناف الجمركية بدمشق خلال 2020 حوالي 426 دعوى، وأنجزت 545 دعوى بين جديدة ومدورة، كما حكمت محكمة الاستئناف الجمركية الثانية دعاوى للدولة بقيمة 1.3 مليار ليرة في الربع الأخير فقط من العام، موضحاً أن العدد الجيد للدعاوى المفصولة يكمن في غياب الدعاوى الإقرارية في المحكمة الجمركية، إذ يشكّل هذا النوع من الدعاوى 50-60% من دعاوى المحاكم المدنية، أما في الجمارك فالخصومة دائماً حقيقية.

وبيّن القاضي قزاز أن 95% من الدعاوى تكون الجمارك هي المدعي فيها، أما الدعاوى التي يرفعها الشخص الطبيعي ضد الجمارك فنوعيتها قليلة، وهي إما رفع منع السفر، أو قصر حجز احتياطي، أو زوال أثر الحجر، أو وقف بيع بضاعة، أو دعاوى التعويض، وهي نادرة جداً.

ريم ربيع