دراساتصحيفة البعث

مع تراجع أهمية النفط.. هل تتلاشى أوبك؟

إعداد : إبراهيم أحمد

لقد ولّت الأيام التي كانت خلالها كلمة “أوبك” مرادفة للثروة الهائلة، فسعر النفط الحالي الذي لا يتجاوز 49 دولاراً للبرميل الواحد غير كافٍ لمعظم الدول الأعضاء، ويرجع ذلك أساساً إلى تمسك هذه الدول بمستويات الإنفاق الضرورية لتحمّل تكاليف الوظائف الحكومية والإعانات السخية، والتي يعود تاريخها إلى حقبة كان يسجل خلالها سعر النفط 100 دولار/للبرميل. وهكذا فقد بدأت تلوح في الأفق “أزمة” أخرى داخل المنظمة وهي عدم تمكن الكارتل من الاتفاق على كيفية الموازنة بين الإنتاج والسعر. ومن المحتمل أن تؤدي زيادات الأسعار إلى إثارة الجدل حول زيادة الحصص والغش في مستويات الإنتاج.

وعلى الرغم من احتمال تكرار الأزمات الداخلية لمنظمة “أوبك”، إلا أنّه لا يمكنها أن تكون دورية بعد الآن. وقد يكون الاتجاه داخل الكارتل سائراً نحو التفكك.

ومن حيث الإيرادات، لم تعد “أوبك” تحقق نفس المستويات السابقة. ومن المرجح أن تصل مبيعات النفط لدولها الأعضاء إلى حوالي 315 مليار دولار هذا العام، مقارنة بـ 565 مليار دولار في العام الماضي، و 692 مليار دولار في عام 2018. أما خلال “أوج عهد” المنظمة – على سبيل المثال، عام 2012 – فكان الرقم ضخماً بحيث بلغ 1,127  مليار دولار. وقد يكون عام 2020 سيئاً من وجهة نظر الدول المنتجة، ويعزى السبب جزئياً إلى أثر جائحة “كوفيد-19” على الاقتصاد العالمي، لكن المنحى السائد يبدو تنازلياً. ومن الواضح أن سوق الطاقة يتغير، فقد أشارت صحيفة “وول ستريت جورنال” في 1 كانون الأول الماضي  إلى أن “شركة “إكسون موبيل” تتراجع عن خطة لزيادة الإنفاق لتعزيز إنتاجها من النفط والغاز، بينما تعيد الشركة المتعثرة تقييم العقد القادم”. وأشارت إلى أن كلاً من “رويال داتش شيل” و”بي پي” و”شيفرون” تخفض قيمة أصولها، ومن الناحية السياسية، حظيت “أوبك” بدعم في العام  المنصرم من خلال اقترانها بدول مصدرة من خارجها في “أوبك بلس” (“أوبك+”). إلّا أن هذا التحالف قائم على المصلحة، وليس على علاقة طويلة الأمد.

يُذكر أن حرب الأسعار العبثية بين روسيا والسعودية التي اندلعت في آذار ونيسان من العام المنصرم لم تنته إلا بعد أن اتفق الطرفان على تخفيض الإنتاج، الذي كان في صالحهما بدلاً من أن يكون في صالح الدول الأعضاء في الكارتل. ومن المثير للاهتمام، أنه ربما يتمّ تقويض زعامة السعودية لمنظمة “أوبك”، إن لم يتم تحدّيها فعلياً، من قبل إحدى أقرب حلفائها المفترضين، وهي الإمارات. فمع كل النفط الموجود في الإمارات، تسعى أبو ظبي إلى زيادة حصتها النظرية في ظل تشغيلها حقولاً جديدة لتمويل طموحاتها الإقليمية المتزايدة، وهناك شائعات بأن الإمارات تفكّر في الخروج من الكارتل، لكن ربما ليس في وقت قريب. ففي كانون الأول الماضي، كشفت تسريبات نية الإمارات إعادة النظر في عضويتها في أوبك ودراسة تداعيات سياسة كبح الإنتاج، وتهدف إلى رفع طاقتها الإنتاجية إلى 5 ملايين برميل في اليوم بحلول 2030، أي أعلى بنسبة 93% من حصتها الحالية التي حددتها أوبك.

لقد باتت منظمة أوبك تواجه تحديات كبيرة خلال العقدين المقبلين، مع تسارع وتيرة التحول الطاقي العالمي وتقلص هيمنة النفط على قطاع النقل بسبب ظهور بدائل أخرى، بما في ذلك السيارات الكهربائية والهيدروجين، مما سيؤدي إلى اضطراب سوق النفط. التوقعات السابقة بشأن تراجع مكانة أوبك لم تكن دقيقة، حيث تمكّن كارتل “تحالف أو تكتل” منتجي النفط من الصمود أمام عدد من الأزمات منذ تأسيسه في عام 1960. ومن بين الأزمات التي واجهها الحظر النفطي في السبعينيات، والحرب العراقية – الإيرانية في الثمانينيات، والغزو العراقي للكويت في عام 1990، والغزو الأميركي للعراق في عام 2003، وبروز النفط الصخري الأميركي في القرن الـ21. لكن الظروف هذه المرة مختلفة، فلم تُحدث أي من الأزمات السابقة تحولاً جوهرياً في قطاع الطاقة يؤدي إلى إنهاء تفرد النفط بالهيمنة على قطاع النقل، لكن هذه الهيمنة ستتلاشى بشكل ملحوظ في ظل الميزة التنافسية التي تتمتع بها المركبات الكهربائية من حيث التكلفة، واتخاذ الحكومات سياسات أكثر صرامة للحد من تصنيع المركبات التي تعمل بالديزل والغازولين. كما أن كثافة الطاقة العالية والسهولة النسبية في نقل النفط جعلته يحتكر بشكل شبه كلي قطاع النقل بنسبة 90% في عام 2018، بينما تشوب بقية البدائل الطاقية المتاحة حالياً عدة نقائص، لكن يبدو أن هذا الوضع بدأ يتغير.

ومن جهتها، تقر أوبك رسمياً بأن الطلب على النفط قد يبلغ ذروته بحلول  2030 وسيستقر بحلول 2040، لكن هذا الموقف يعكس التأثير السياسي الذي تمارسه الدول المنتجة للنفط. يُشار  إلى أن مرحلة استقرار الطلب على النفط من شأنها أن تخفي التحولات التي تشهدها الدول الأعضاء في أوبك، التي من المحتمل أن تدفع الكارتل نحو تقليل التركيز على دعم الأسواق، ويتنازع قادة أوبك الذين لطالما سعوا لمنع انهيار الأسعار، بشكل متزايد مع منتجي النفط من خارج أوبك مثل روسيا والولايات المتحدة على حصتهم من السوق. ونظراً لأن الوقود البديل أصبح أكثر تنافسية من حيث التكلفة في قطاع النقل، بات لدى الدول الأعضاء في أوبك حافز أقل لمنع انهيار أسعار النفط ودعم البدائل على المدى الطويل.

من غير المرجح أن تختفي أوبك في وقت قريب بسبب الفوائد التنظيمية والفنية التي تتمتع بها الدول الأعضاء فيها، لكن بحلول منتصف العقد الثالث من هذا القرن -إن لم يكن قبل ذلك- ستكون أهميتها كجهة فاعلة في تنظيم السوق قد انخفضت بشكل كبير. وإذا كانت دول الصف الأول المنتجة للنفط في أوبك في وضع جيد يتيح لها الصمود أمام الأزمة المقبلة بفضل عائدات النفط الضخمة المتراكمة في صناديق الثروة السيادية، في حين أن دولاً أفقر في أوبك مثل العراق والجزائر وأنغولا ونيجيريا ستواجه أزمات مالية في المستقبل.

يتوقع أن يخف الثقل السياسي الذي تحظى به الدول المنتجة للنفط في المستقبل، وذلك مع تقهقر مكانة منظمة أوبك على الصعيد العالمي، وفقدان العلاقات الودية مع الدول المنتجة للنفط لأهميتها. وفي الواقع، لا توجد علاقة قائمة على المصالح المشتركة في استقرار سوق وإمدادات النفط بقدر العلاقة السعودية الأميركية. ومن المنتظر أن تشهد هذه العلاقة تحولاً جذرياً مع فقدان النفط أهميته كمحور أساسي في السياسة الخارجية الأميركية. وأن يكون لتراجع تأثير أوبك تداعيات على أسواق النفط.

لقد كانت أوبك تعمل على زيادة أو خفض الإنتاج لضمان استقرار الأسعار، وتحاول تعويض النقص في الإنتاج أثناء النزاعات، وذلك لخلق بيئة أسعار مستقرة بصفة عامة. لكن نجاح أوبك في القيام بذلك تراجع ببطء بمرور الوقت، مع وصول السوق لمرحلة الإشباع بظهور منتجين آخرين للنفط، ولكن حسب ماأظهرته الاستجابة لكوفيد-19 وانهيار أسعار النفط في 2014، لا يزال بإمكان أوبك تنظيم استجابة رئيسية في أي أزمة.