تحقيقاتصحيفة البعث

أطفال نزيلات سجن النساء.. شقاء في البقاء وضياع في الابتعاد عن الأمهات؟!

تبذل إدارة سجن النساء جهوداً كبيرة لتوفير ما أمكن من خدمات ومستلزمات للنزيلات المتواجدات في السجن، لتضاعف الجهود والخدمات مع من لديهن أطفال على وجه الخصوص من خلال تقديم وتوفير مستلزمات الأطفال من “حليب وفوط وثياب”، لنصل للرعاية الطبية والصحية للنزيلات وأطفالهن، فالتعامل هنا له خصوصية وحساسية كبيرة بسبب خصوصية من يتواجد في هذا المكان!.
يدفع أطفال النزيلات ثمن أخطاء أمهاتهم، حيث كُتب عليهم الالتحاق بهن بناء على رغبة الأمهات طبعاً، إذ تختلفن في وجهات النظر بين من تصر على بقاء طفلها معها، على الرغم من إدراكها أن أي مكان آخر أفضل من وجود الطفل في هذا المكان، ولكن “ما باليد حيلة”، حسب ما أكدت معظم النزيلات اللواتي التقينا بهن، ومن تطلب إحضار طفلها ليقيم معها إما لتنهي فترة سجنها، أو كما تفعل بعض النزيلات اللواتي يبقين أطفالهن لفترة معينة معهن، ثم يقمن بتسليمهم لاحقاً “لأمهاتهم، أو أزواج الأمهات، أو لأحد الأقارب”، ليكون كل طفل محظوظاً في حال قبل ذوو النزيلة الاهتمام به، وإلا ما من حل إلا الالتحاق بأحد دور الأيتام!.
ولادة في زنزانة
قصص من الخيال أبطالها أطفال لم يتجاوز عمر الواحد منهم أشهراً، حياة مقيدة اضطر أطفال النزيلات لعيشها لحين خروج أمهاتهم من السجن، وقد تكون أكثرها غرابة قصة الطفل الذي ولدته أمه على سرير زنزانتها بمساعدة رفيقاتها والعنصر النسائي في إدارة السجن، وتحدثت النزيلة باستفاضة عن الفترة التي قضتها وستكملها في السجن، قائلة: “تم إلقاء القبض عليّ وكنت حينها في أسابيع حملي الأولى، لأُنقل فيما بعد إلى السجن، حيث تمت متابعة وضعي الصحي من قبل الطبيب لحين ولادتي التي كانت مفاجئة، ليتم بعدها نقلي ومولودي إلى المشفى، وضعي النفسي كان صعباً بعد صدور قرار الحكم المتعلق بي، فالرأي العام هو من حاكمني”!.
اليوم أصبح عمر طفلها بضعة أشهر، ليست لديها أية رغبة في إبقاء طفلها معها في السجن، قائلة: على الرغم من المعاملة الجيدة والخاصة للنزيلات اللواتي لديهن أطفال، “ولكن يبقى سجناً”، وغير صالح لتربية الأطفال، فالجميع يريدون تربية طفلك معك، الكل يتدخل، مضيفة: “نحن في الزنزانة 17 نزيلة، لكل رأيها وأسلوبها الذي تريد فرضه على الأخريات، وكل واحدة منهن تريد أن تعلمك طريقة لتربية طفلك، لذلك سأرسل طفلي لأهلي فهم لا يمانعون الاهتمام به، لا بل يرفضون بقاءه هنا، زوجي هو الآخر في السجن، وجل ما أتمناه هو النظر بعين الرأفة لوضعي فقط من أجل طفلي”، تشاركها في الرأي نزيلة أخرى لديها طفلة لم يتجاوز عمرها السنة، مؤكدة أنه على الرغم من كل الرعاية التي يلقاها الأطفال، ولكن لا يُحبذ بقاؤهم هنا حتى لو كانوا مع أمهاتهم: “سكتي بنتك، ليش عم تبكي، صوتها صرعنا”، إلى آخر ما هناك من أوامر تفرضها عليك النزيلات، فنحن مصدر إزعاج لهن مع أطفالنا، متسائلة بحسرة: “كيف يمكن أن أجبر طفلة لم تتجاوز السنة من عمرها على النوم في الوقت المخصص لنوم جميع من في الزنزانة الذي يبدأ من 3 إلى 5 عصراً؟ صحيح وجود الأطفال مع أمهاتهم بطلب ورغبة من النزيلة نفسها، ولكن، أنا هنا أتحدث عن تجربة مريرة، لا أفضّل أبداً بقاء طفلتي معي”، مبررة وجهة نظرها بتدخل كل من حولها بتربيتها لطفلتها، وفقدانها القدرة على تربيتها أو الاعتناء بها كما يجب!.
يكفي أنه سجن
المشهد نفسه ينسحب على إحدى النزيلات التي طلبت إحضار طفلتها إليها بعد وصولها بعشرين يوماً فقط إلى السجن، لأن حالة طفلتها النفسية تأزمت، على الرغم من وجودها عند أهل الأم، لكن بُعدها عن أمها، وهي لم تُكمل عامها الأول، كان كفيلاً بأن يدخلها في وضع صحي ونفسي سيىء، لتقوم النزيلة بتقديم طلب لإدارة السجن لإحضار طفلتها إليها، وتحصل على موافقة من المحامي العام، مضيفة: “طفلتي اليوم معي، ومع ذلك تشعر بالخوف من المكان، على الرغم من أنها طفلة محبوبة من الجميع، ولكن يبقى مكاناً غير ملائم لوجود أطفال، أنا اليوم أنتظر صدور قرار الحكم المتعلق بي، وعند صدوره سأرسل طفلتي إلى عمتي لتقوم بالاهتمام بها ريثما أخرج، زوجي سيلتحق بالخدمة الإلزامية، وبالتالي لن يتمكن من الاهتمام بها، وإرسالها لأهلي صعب لعدم قدرتهم على الاعتناء بها بسبب وجود أخ مريض، بينما ترفض “حماتي” الاعتناء بالطفلة لأنها تدرس في الجامعة، وتريد إكمال تعليمها”!.
جمعية رعاية السجناء وأسرهم

مروة هواش غشّام من جمعية رعاية السجناء وأسرهم في دمشق تحدثت عن الجهود التي تبذلها الجمعية بالتعاون مع المعنيين في السجن لمساعدة النزيلات وتقديم العون لهن ولأطفالهن، حيث لا تقتصر الخدمات المقدمة على تزويد أطفال النزيلات الرضع بـ “الحليب والفوط” بشكل مستمر، لا بل تشمل أيضاً الثياب حسب المتاح، إضافة إلى تأمين قسم من الأدوية بالتعاون مع إدارة السجن، ومراعاة النزيلات اللواتي يعانين من وضعٍ مادي سيىء، وتأمين الأدوية لهن ولأطفالهن مجاناً، فيما تقوم الجمعية بتأمين القسم المتبقي من الأدوية على حساب النزيلات، مؤكدة وجود صعوبات في بعض الأحيان بتأمين بعض الأدوية غير المتوفرة، أضف إلى ذلك أزمة فقدان حليب الأطفال في الفترة الماضية التي عانى منها جميع المواطنين من دون استثناء، وأيضاً عدم وجود طبيب أطفال في السجن، مع تأكيدها على حرص إدارة السجن على متابعة وضع الأطفال الصحي، في محاولة من الجميع لتخطي الصعوبات، وتضيف غشّام: “لا يقتصر عمل الجمعية ودورها على تقديم الرعاية للنزيلات فقط داخل السجن، بل يمتد ليشمل أُسر النزيلات، خاصة من لديها أطفال، وتقوم والدتها على سبيل المثال برعايتهم، عبر تخصيص مبلغ ماليٍ للمساعدة”، وتتابع غشّام: “بعض أهالي النزيلات كالزوج في كثير من الأحيان، أو أحد أفراد عائلتها، قد يرمي بمسؤولية تأمين احتياجات الطفل من حليب وأدوية وغيرهما عنه، ما يزيد العبء”، مختتمة حديثها: “نحاول قدر المستطاع رعاية الأطفال، لأنه لا ذنب لهم، بما حدث من خلال تقديم أنشطة ترفيهية وهدايا، خاصة في الأعياد والمناسبات”.

تقديم ما يلزم

بدوره يؤكد الرائد منقذ سرّاج، طبيب النسائية والتوليد في السجن، أن الوضع صعب، والجهل هو إحدى أهم الصعوبات التي يعاني منها وتواجهه في عمله، فهنا تتعامل مع سويات مختلفة، وتبقى بشكل دائم على تماس مباشر معها، لا شك هناك صعوبة، خاصة مع بعض النزيلات اللواتي قد يرتكبن بسبب جهلهن أخطاء كثيرة أثناء اهتمامهن بأطفالهن، مستطرداً بأن الجهل لا يقتصر على بعض النزيلات، فهو مشكلة عامة نعاني منها حتى في عملنا خارج السجن، ومع ذلك نحاول رغم الصعوبات أن نساعد النزيلات من خلال متابعة وضعهن ووضع أطفالهن الصحي، وتقديم كل ما يلزم من أدوية ومتابعة طبية كاملة، خاصة للنزيلات الحوامل اللواتي نحرص على مراقبة وضعهن بشكل دوري لحين موعد الولادة التي تتم في مشفى الشرطة.

الآباء يأكلون الحصرم والأطفال يضرسون!
نعم، ينطبق هذا المثل الشعبي حرفياً على أطفال النزيلات في سجن النساء، فالأطفال هنا يدفعون ثمن أخطاء الأهل، حيث لا ذنب لهم في كل ما حصل وسيحصل، أطفال يحرمون من حريتهم، ومن العيش في بيئة طبيعية، وهم مُعرّضون للكثير من المشاكل والنكسات أقلُّها النفسية التي لا يمكن الاستهانة بتأثيراتها مستقبلاً، ليواجهوا فيما بعد رفض المجتمع لهم الذي هو شريك ومساهم في إنتاج طفل ناقم لتحميله مسؤولية ذنب لم يقترفه، وهنا لابد من تسليط الضوء أيضاً على الأطفال الذين لا يتمكنون من رؤية أمهاتهم في السجن إلا في فترات متباعدة، والأسباب كثيرة، خاصة أولئك الذين يُرسلون إلى دور الأيتام لعدم وجود قريب يعتني بهم، سواء من طرف الأم أو الأب، ما يحتم علينا أن نقف مطولاً عند أوضاع نزيلات سجن النساء لخصوصية الوضع، فالطفل الذي سينشأ مع والدته في السجن قد يخرج حاقداً على مجتمعه لأنه في الأساس تربى في بيئة مشوّهة!.

نحن هنا لا نبرّر أي جرم مرتكب مهما صغر أو كبر، ولا نتدخل في عمل القضاء، ولكن لاعتبارات إنسانية بحتة، ولخصوصية المرأة الأم تحديداً، علينا كجهات مسؤولة التعاطي معها من منظور مختلف، ويبقى الحديث في هذا الأمر شديد الخصوصية والحساسية ذا شجون، ويتخلله الكثير من التعاطف مع الأطفال المقيمين مع أمهاتهم في السجن، وكما يقال في اللهجة المحكية: “الحكي مو متل الشوف”.

 

لينا عدرة