مجلة البعث الأسبوعية

التشكيلي الشعبي ناجي العبيد في الذكرى الثانية لرحيله.. من جماليات البيئة الفراتية شكّل بصمته!!

“البعث الأسبوعية” ــ ملهم الصالح

مع انسحاب العثماني من بلاد الشام، وانتهاء الحرب العالمية الأولى، كانت ولادته، فأسماه والده “ناجي” راجياً نجاته مما حل بأخويه قبله، إذ توفيا رضّعاً، فاستجيب الرجاء، ليعيش “الناجي” حياة تزيد عن القرن، طافحة بالتفاصيل والأحداث والتجربة والعطاء والتميز، وهو ما يفسر توقيع أعماله باسم “ناجي” منفرداً دون الكنية، ملحقاً به سنة إنجاز اللوحة، في حين أن اسمه مركباً – كما ورد في الأوراق الرسمية – “محمد ناجي العبيد”.

يصنّف “العبيد” كـــ “تشكيلي شعبي حديث” يستلهم مواضيع أعماله من جوانب ومظاهر الحياة في الأحياء القديمة في المدن والأرياف والبوادي، يميل للزخارف الفولكلورية والتصوير الشعبي، استمرت مسيرته التشكيلية الحافلة – “التي تعتمد عدم النقل عن الفنّ الغربي” – ثمانين عاماً، حرص خلالها على تجسيد التراث والحفاظ على الأصالة والمحلية، انطلاقاً من أن سورية بلد الإبداع وحاضنة الحضارة الإنسانية.

 

بداياته

في القامشلي، لاحظ الأستاذ، العائد للتو من فرنسا، الميول الفنية لابن السابعة، فسعى لتبنيها وتنميتها. تنقّل الطفل بين الحسكة ودير الزور، ثم حلب؛ ومع صقل موهبته بدأ برسم “أفيشات” وخطوط الأفلام لدور السينما، إلى أن التحق في الأربعينيات بسلك الشرطة الجنائية في حلب، ثم انتقل إلى دمشق بعد الاستقلال، ليلتحق بالأركان، وليعمل في إخراج رسوم وخطوط مجلة “الجندي”، إضافة لعمله مع فخري البارودي في مكتب أخبار الجيش.

في الخمسينيات، تقدم بـ 5 لوحات لـ “معرض الربيع”، وواظب سنوياً على المشاركة فيه؛ ومن خلال أعمال التشكيليين المحترفين المشاركين، بدأ التعرف على أنواع الرسم وتقنياته، إضافة لتنمية ثقافته بالمطالعة المتنوعة واحتكاكه بالتشكيليين، فشعر بأهمية الدراسة المتخصصة، ما دفعه لدراسة الصحافة والفن في القاهرة، خلال فترة الجمهورية العربية المتحدة؛ وعند عودته إلى دمشق، درّس الفن في ثانوياتها كـثانوية جودت الهاشمي.

 

مرسمه وأسلوبيته

منذ مطلع السبعينيات، يحجز العبيد مرسمه الخاص في سوق المهن اليدوية “التكية السليمانية”، وسط العاصمة دمشق، تعلو واجهته لافتة كتب عليها اسم الفنان “ناجي”، تحتها رقم عضويته في نقابة الفنون “4”، إشارة لريادته في المشهد التشكيلي السوري، يمارس التصوير الزيتي صانعاً ألوانه بنفسه، ويسجل له ابتكار لوحة سورية بأسلوبية ابتعدت عن تقليد المدارس الغربية، ما جعل منه فناناً أقرب إلى الفطرة، يميل للتكعيبية وحيناً للرمزية وتارةً للواقعية المبسّطة، ينسخ أحياناً، أو يستلهم من اللوحات الاستشراقية، وتنحصر أعماله ببضعة مواضيع، أكثرها شيوعاً وخصوصيةً: صورة وجه أنثوي مطموس العينين على خلفية مما يستعمله البدو، أو سكان القرى، أو زخارف هندسية، لاغياً البعد الثالث، فيسطح العناصر، ويحيطها بخط أسود، موظفاً الخط العربي والرموز والأيقونات المحلية ليغني لوحته.

تأثر بمدارس واتجاهات فنية عدة، إلا أن غالبية نتاجه تنتمي لما يصطلح عليه بـ “الفن الشعبي” المستمد من الحياة اليومية للناس، وعاداتهم، وملابسهم، ومنازلهم؛ في لوحته تجتمع الوجوه والخطوط والزخارف، وتتجلّى حالة البحث عن الأصالة وجذورها بطريقة ذات خصوصية، ومواضيعه تشكل محاولات لرصد التراث المختبئ في زوايا البيوت والحارات القديمة والكتب، كقصة “عنترة وعبلة”.

طيلة نصف قرن، يعتكف “ناجي” في مرسمه الصغير، يبدع ويسوّق أعماله بعيداً عن صالات العرض، حريصاً على أن يبقى منتجه التشكيلي في متناول واستطاعة الإنسان العادي، مضموناً وسعراً، وعن ذلك يقول: “أبيع لوحاتي بسعر رخيص نسبياً لتكون في متناول المتلقي الذي سيحافظ عليها لأنه أحبها”.

 

من أقواله ومأثوراته

“الفطري لا يغلب الأكاديمي”

“الكل لديه فطرة فنية ولا أحد يخلو منها”

“لكل دوره في إنشاء الحياة التشكيلية السورية”

“للوصول للعالمية علينا أن نتحلى بالمحلية”

“المحلية لا تنفي دراسة مدارس الفن الأوروبي”

“لا مبرر لنصبح ناسخين بلا وعي فني”

“رسم دمشق ليس فناً محلياً إن رسمت بمقاييس أوروبية”.

 

شهادات

يصف التشكيلي، د. محمود غنوم، الراحل منوهاً: “صاحب تجربة تشكيلية أصيلة، تنبع جماهريتها من قرب لوحته من الناس، إذ اجتهد كثيراً، وعلّم نفسه بنفسه، عمل بإخلاص، استفاد من مهارته في الخط فوظفه في لوحته، اتسم بغزارة الإنتاج، وبقي يرسم حتى آخر أيام حياته”.

واعتبر عميد كلية الفنون الجميلة، ورئيس اتحاد الفنانين التشكيليين السوريين السابق، د. إحسان العر أن: “رحيل التشكيلي ناجي العبيد خسارة كبيرة للساحة التشكيلية السورية والعربية، إذ أنه صاحب تجربة فريدة، لا سيما في الفن الشعبي، ترك إرثاً فنياً غنياً للأجيال القادمة، عمل دون انتظار مقابل، بل من أجل الفن فقط”.

كما أعرب التشكيلي موفق مخول عن أسفه معتبراً العبيد “ذاكرة وطنية وإنسانية وتشكيلية كبيرة، صاحب فضل كبير على الكثير من الفنانين السوريين الذين تعلموا على يديه، عبّر عن سوريته بفنّه وروحه وثقافته، تعامل بصدق مع كل من عرفه، ندين له كتشكيليين بالكثير من العطاء، سيبقى خالداً في ذاكرتنا وأعمالنا وضمائرنا”.

فيما علّق التشكيلي محمود الجوابرة: “ثمانون عاماً من العطاء والإنتاج الفني، أمر ليس بالسهل، فالراحل طوّر في الفن الشعبي كثيراً، وقدّم ما يمكن أن نطلق عليه الواقعية المبسطة، مستلهماً من جماليات البيئة الفراتية التي بقي وفياً لها في لوحته ونتاجه التشكيلي، فشكّل بصمته الخاصة، وأثر في تشكيليين كثر، حمل العديد من الأوسمة التي يستحقها بجدارة، كحالة لا تتكرر في الفن التشكيلي السوري”.

 

مرضه ورحيله

عام 2013، داهم السرطان جسد العبيد، فرفض الاستسلام له، وقرر التعايش معه طيلة 6 سنوات أنجز خلالها 400 لوحة (لم تعرض بعد!)، بأسلوبية مبتكرة (كما تروي عائلته)، إلا أن “الخبيث” غدر به، فتهتّكت رئته، واستنفد قلبه، لكنه حتى في أعلى درجات المرض يرسم وكأنه يسابق الزمن، غير آبه بمثقفي دمشق ونقّادها الذين أداروا ظهرهم لتجربته، ولفرط تعلقه بأعماله؛ تدمع عيناه إن أصاب إحداها التلف، بقي وفياً للوحته منذ بدايات احترافه مطلع الأربعينيات، وحتى آخر أيامه، إذ لجأ للرسم بإصبعه حين عجز عن الإمساك بالريشة.

تمر الذكرى الثانية لرحيل العبيد؛ ولا تزال “قطط السوق” تفتقد رعايته، فتلوذ بمرسمه الذي تديره زوجته السيدة رغدة قاسم، الحريصة على إبقائه كما كان.. حتى المذياع ما زال يبدّد سكون المكان، وابنه الوحيد، محمد، يعد بمتابعة مسيرته.. وأما أنت! إن كنت ممن اعتادوا ارتياد مرسمه قبلاً، فلن تلحظ سوى غياب الرسام ذي النظارة السوداء.

 

بطاقة

التشكيلي محمد ناجي العبيد، مواليد حي الجبيلية، دير الزور، 1918، من رواد الفن التشكيلي السوري، والمؤسسين الأوائل لنقابة الفنون الجميلة، واتحاد الفنانين التشكيليين السوريين، يحمل البطاقة رقم “4” بعد التشكيليين: د. عفيف بهنسي، نعيم إسماعيل، ممدوح قشلان.

عضو جمعية أصدقاء الفن، واتحاد الصحفيين العرب. رصيده التشكيلي يقارب 6 آلاف لوحة، من بينها لوحات لملوك ورؤساء وشخصيات تاريخية بارزة. شارك في 115 معرضاً جماعياً داخلياً وخارجياً، وأقام 35 معرضاً فردياً، وهو السوري الوحيد الذي يحجز مكاناً للوحته التشكيلية في المكتبة الوطنية بباريس، ولوحة أخرى في المجمع العربي للجامعة العربية في فرنسا. حصل على 12 وساماً وشهادة تقدير، وتناولت أعماله أطروحات أكاديمية عربية وأوروبية.

توفي صباح الخميس الـ 14 من آذار 2019، عن عمر يناهز الـ 101 سنة، ووريّ الثرى في مقبرة نجها في ريف دمشق.