مجلة البعث الأسبوعية

سورية.. سنوات الجمر والقيامة

دعوا سورية وشأنها!

“البعث الأسبوعية” ــ برونو غيغ (الصفحة الخاصة على فيسبوك)

ها قد مرّت عشر سنواتٍ من الحرب في سورية، ومعاناة الشعب السوري مستمرّة. عشر سنواتٍ من الحرب، والآلاف من الأرواح التي حصدتها، والدمار الهائل الذي تسبّبت به، هي ندوب الاستشهاد التي أصابت شعباً لا يطلب سوى العيش بسلامٍ فقط. إنها جزية هائلة تمّ دفعها ثمناً لهذا الجنون الجماعي المدبّر من الخارج، والذي شهد توافد مرتزقة من 120 جنسية إلى بلاد الشام لإقامة “إمارةٍ” جديدة. حرب لا ترحم قاتلت فيها الدولة السورية المهدّدة بالزوال بضراوةٍ دفاعاً عن وحدة أراضي وسيادة الأمّة. وفي مواجهةٍ متعدّدة الوجوه، تستمرّ الحرب في سورية في تقديم حصيلتها القاتمة.

كان على المرء أن يكون ساذجاً حتى لا يرى، بدءاً من ربيع 2011، الازدواجية الهائلة للحكومات الغربية التي تذرف دموع التماسيح على الضحايا التي تسبّب بها الجيش السوريّ، بينما تقوم بتبرئة فظائع التمرّد المسلّح. من الصعب أيضاً تجاهل أنّ مقاتلي شبكات التمرّد حصلوا على دعمٍ ماليّ هائل من ممالك النفط الخليجية. لكن الغرب وحلفاءه الإقليميين لم يرغبوا في خوض معركةٍ مع دمشق من أجل تعزيز حقوق الإنسان. كان هدفهم هو الدفاع عن المصالح الرنّانة والمتعثّرة في قلب منطقةٍ حاسمة في موضوع مستقبل الطاقة العالمية.

كان الهدف أيضاً – كما كتبت هيلاري كلينتون في رسالةٍ إلكترونية مشهورة كشف عنها جوليان أسانج – ضمان أمن “إسرائيل” من خلال تحييد أحد آخر معاقل القومية العربية. لأنّ سورية تقع في قلب تحالفٍ يجمع القوى المعارضة للهيمنة “الإسرائيلية” الأميركية في المنطقة. وبقيت الدولة العربية الوحيدة الواقفة التي ترفض الانصياع لقوّة الاحتلال. إنّها نقطة الارتكاز لقوس المقاومة الممتدّ من دمشق إلى طهران، بما في ذلك حزب الله اللبناني والحركات الفلسطينية. مأساة سورية، ولكن فخرها أيضاً، هي أنّها الفتى المرعب للقومية العربية، وهي آخر بقايا حقبةٍ كانت فيها الناصرية وحزب البعث ملهمي النضال ضد الإمبريالية والصهيونية.

من خلال تخيّلهم أنهم سوف يتسبّبون بسقوطها لصالح “الربيع العربيّ”، تجاهل القادة الغربيون الشرعية التي تتمتّع بها الحكومة السورية. كانوا يعتقدون أنّ الجيش النظاميّ سوف ينهار تحت تأثير الفرار الجماعيّ الذي لم يحدث قطّ. لقد أعمتهم قراءتهم الاستشراقية للمجتمع السوري. كانوا يتظاهرون بأنهم يؤمنون بأسطورة شعبٍ بطل يقف في مواجهة الطغيان، بينما تتعزّز في المقابل شرعية الرئيس الأسد من خلال تصميمه على محاربة أعداء سورية.

ركّزت وسائل الإعلام الغربية كاميراتها على حشود الملتحين، واصفةً إياها بأنها انتفاضة شعبية، لكنّها حجبت المسيرات الضخمة المؤيّدة للحكومة والإصلاحات، في دمشق وحلب وطرطوس، بين حزيران وتشرين الثاني 2011. إلا أنه، كان كافياً تحليل مثل هذه الأحداث لقياس توازن القوى الحقيقي داخل الدولة. لكن قصر النظر المتعمّد للنظرة الغربية إلى سورية حطّم كلّ الأرقام القياسية. دفعت الشراهة أصغر صحفي إلى ركوب القطار الدعائي عالي السرعة المناهض لدمشق، فاندفع متهوّراً إلى العربة الأخيرة. لقد أسكت الخيال الدعائي الفطرة السليمة، ولم تكن الفظائع التي ارتكبها المتطرّفون، اعتباراً من ربيع 2011، تمرّ في التغطية الإعلامية التي تصنّف الضحايا بين طيبين وأشرار.

ولأنّها مؤشّر لا يخطئ عن أهميّتها الاستراتيجية بالنسبة لواشنطن وأذنابها، فإنّ الحرب في سورية أشعلت فتيلاً غير مسبوقٍ من الأكاذيب. تستحقّ الخرافة الفظّة حول الهجمات الكيماوية المنسوبة إلى الجيش السوري تنويهاً خاصّاً من هيئة المحلّفين: ستبقى إلى الأبد في حوليّات المعلومات المضلّلة، إلى جانب قارورة كولن باول وحاضنات الأطفال في مدينة الكويت. مع تبدّد ستار دخان “المعارضة السورية الديمقراطية” بسرعة، كان من الضروريّ اختراع موكبٍ من الرعب الوهميّ من أجل عكس اتجاه الدليل. من أجل صرف الانتباه عن قاطعي الرؤوس القادمين من كلّ مكان، ومن اللامكان، لإبادة الزنادقة، تمّ توجيه الاتّهام للدولة السورية. واختراع اتهاماتٍ غير معقولة، وحدها سذاجة الرأي العام الغربيّ الذي تعرّض لغسيل دماغ مكثّف يمكنها أن تضمن لها الفعالية.

ولكن، كان يكفي الرجوع إلى الأرقام التي قدّمتها منظّمة قريبة من المعارضة المسلّحة (المرصد السوري) حتى نتحقّق أنّ نصف ضحايا الحرب هم من قوّات الأمن السورية. هل من نفيٍ أفضل من ذلك لخرافة مذبحة السكان الأبرياء على يد جيشٍ من الجلاّدين؟ لكنّ السرديّة السائدة لم تلتفت إلى هذه التفاهات، وعملية “تغيير النظام” المرغوبة في واشنطن تكيّفت بسهولة مع مثل تلك التشويهات للواقع. لقد تجاهلت ما لاحظه مراقبو البعثة الذين أرسلتهم جامعة الدول العربية بين كانون الأول 2011 وكانون الثاني 2012، ألا وهو العنف الذي أطلقته المعارضة التي يتمّ تصويرها في الغرب على أنها سلميّة ومتسامحة، بينما كانت تنخرها العقيدة التكفيرية وممارسات المافيا والمال السعودي منذ البداية.

إنّ الحرب في سورية، التي أرادتها واشنطن ولندن وباريس وأنقرة، وبتمويلٍ من ملوك الخليج، هي مهزلة دمويّة. كانت شهيّة الهيمنة الإمبريالية هي المحرّك لتلك الحرب، فحشدت حشداً من المرتزقة المتعصّبين أتوا من الجماهير التي يمكن التلاعب بها، والمخبولة إلى أقصى درجةٍ بالأيديولوجية الوهابية. لقد أدّى هذا الصراع، الذي يعدّ صندوقاً حقيقيّاً للعجائب، إلى بروز مجموعةٍ مذهلة من المخازي: قادة غربيون يدّعون محاربة الإرهابيين بينما هم يزوّدونهم بالأسلحة باسم حقوق الإنسان؛ ما يسمى بالدول الديمقراطية تفرض حظر أدوية على سكانٍ مدنيين ذنبهم أنهم لا يحاربون حكومتهم؛ عائلات ملكيّة متعطّشة للدماء والفجور تعظ بالديمقراطية بينما ترعى الإرهاب؛ وأخيراً، مثقّفون فرنسيون يطالبون بقصف بلدٍ لم يفعل شيئاً لنا كواجب أخلاقيّ.

لكنّ الدولة السورية أوشكت على وضع حدٍّ نهائيّ لهؤلاء المرتزقة المبتذلين الذين أتوا لتدمير مهد الحضارة مقابل حفنةٍ من دولارات النفط. من خلال إعادته السيادة الوطنية إلى معظم الأراضي المأهولة بالسكّان، وجّه هذا الجيش الشجاع من المجنّدين صفعةً إلى كل أولئك الذين حلموا باستبدال سورية بكوكبةٍ من الكيانات الطائفية. لقد دفع هذا الجيش الوطني، الذي تعرّض للافتراء بلا هوادة من قبل دعاة الغرب، ثمناً باهظاً لتحرير أرض الوطن. ربّما يكون مزوّرو حقوق الإنسان قد اختلقوا “حقائق” لإرباك هذا الجيش، فنحن نعلم أنّ “المتمرّدين المعتدلين” الأعزاء على قلب الغرب ذبحوا عائلات الموظفين البعثيّين، وأنّ الصحافة الغربية نسبت هذه الفظائع إلى الجيش النظاميّ. من خلال جهودٍ خارقة، دحر الشعب السوري ودولته وجيشه الميليشيات الإرهابية إلى ذلك الجيب في إدلب، والذي سينهار بدوره في النهاية.

لا تزال سورية السيّدة، المنتصرة على الصعيد العسكريّ، القويّة بالدعم الشعبيّ، تعاني من أهوال الحصار الغربيّ، إضافةً إلى تداعيات الحرب وتدمير التضامن الأسريّ والمجتمعيّ الذي تدهور بعد عشر سنوات من العنف المستمرّ. لذا فإنّ قسوة أعداء سورية ليست إجراميّة فحسب: إنّها عبثية.

بعد عشر سنوات من الحرب، ترى البلاد أخيراً نهاية النفق. عادت بعض أحياء دمشق أو حلب إلى الحياة من جديد، لتعود إلى نمط الحياة الذي كان سائداً في الماضي. كان للروس دور فعّال في تحرير سورية، ومن المرجّح أن يلعب الصينيّون دورهم في إعادة إعمارها. لم يتبقّ أمام واشنطن ولندن وباريس وأنقرة سوى شيءٍ واحد: التوقّف عن ممارسة قوّتهم التي تتسبّب بالإزعاج والضرر. فليتنحّوا جانباً، وليتركوا سورية وشأنها. لكن الإمبريالية ليست معتادة على التخلّي عن مغانمها، وسيكون الطريق طويلاً بلا شك قبل عودة السلام.

12 آذار 2021