مجلة البعث الأسبوعية

قويق.. بين جاذبية الماء والوجود وطواحين الخلود

“البعث الأسبوعية” ــ غالية خوجة

كلما حضرت المياه حضرت دلالاتها الحية لتتغلب على الدلالات الميتة، موحية باستقطاب الكائنات الطبيعية من أشجار وحيوانات، وبكل تأكيد، باستقطاب الإنسان الذي انتقل من الترحال في الأراضي الشاسعة عبْر الزمان، ليستقر مع جاذبية الماء عبْر المكان، ومن ثم ليبدأ في تكوين الحياة، من الزراعة إلى التخييم إلى البناء إلى الأسواق والمعابد وما تتطلبه اليوميات تبعاً لظروف كل عصر.

 

النهر فيضان دفاعي

لم يكن نهر قويق بعيداً عن هذه الجاذبية التي تصاب بالفيضانية القديمة، فتُغرق ما حوله من بساتين وأراض خضراء وبيوت ومبان. وقد دافع هذا النهر، يوماً، بهذا الفيضان عن حلب، فشتت شمل الفرنجة وأغرق خيامهم وانتصر على حصارهم، وظل الفيضان الشتوي متواصلاً إلى أن بنت تركيا سداً، وقطعت المياه عن قويق الذي يمتد فيها 19 كم، بداً من رافده الأول عنتاب.

 

الفرات ينتصر لقويق

ولهذا النهر الممتد 110 كم في حلب، حكايات كثيرة جفّت مع الوقت مثل خريره، لكنها ما زالت تحلم بالمستقبل، وتذكّر أن مياه الفرات أتت إليه من قناة تروي مشروع مسكنة بطاقة تدفقية مناسبة، وتمّ هذا التدشين بحضور السيد الرئيس بشار الأسد عام 2008.

النهر الصامد خلال العشرية الإرهابية، انتصر على التدمير الممنهج، وهو قيد إعادة التأهيل ميكانيكياً وكهربائياً وجمالياً، ليكتمل مشروع جر مياه الفرات إلى مجراه من بحيرة الأسد، ويقدم وظائفه الواقعية بيئياً وسياحياً.

 

غناء الماء

وإذا ما عدنا بطريقة “فلاشباكية”، ونحن نجلس على أحد حواف النهر الحجرية الممتدة بين منطقة الشلالات والفيلات والحديقة العامة والمسافة الراحلة بعيداً إلى سد خان طومان جنوب حلب، والذي من المتوقع أن يصل مخزون المياه فيه إلى 70 متراً مكعباً لري 22000 هكتار، مساهماً في سقاية الأراضي المستهدفة، فإننا نلمح العديد من الروايات والأزمنة تمط رؤوسها مثل الأسماك التي كانت هناك، لنحكيها مع منابعها من رافد قرية الحسينية قرب إعزاز، ورافد عنتاب، عبوراً إلى كتب عدة ذكرت نهر قويق، منها “معجم البلدان” لياقوت الحموي، و”نهر الذهب في تاريخ حلب” لكامل البالي الحلبي الغزي.

ولم يقتصر عبور هذا النهر على مكانه الجغرافي كمجرى وقناة، لأنه عبر من خلال عدة قصائد لعدة شعراء، وبكافة حالاته الشتوية والصيفية، الخصبة والجافة، ومنهم نذكر محمد بن إبراهيم الخضر الحلبي، وأبو العلاء المعري، والبحتري، وشرف الدين الحسيني، وأبو بكر الصنوبري، القائل:

قويق إذا شمّ ريح الشتا  ء أظهر تيهاً وكبراً عجيباً

وماثل دجلة والنيل والْـ   فرات بهاء وحسناً وطيبا

 

تعددت الأسماء والنهر واحد

لنهر قويق أسماء عديدة تعبر التأريخ أيضاً، منها: خاليس، شالوس، سيغا، بيلوس، فاليس، وسمّاه المؤرخ الأثيني أكستوفون بـ “كالوس”، وأطلق عليه اليونان خالاس، وأسماهُ الغزي بنهر حلب، بينما اسمه الحالي قويق؛ وهناك من قال بأنه اسم مصغر لصوت واسم القاق “الغراب”؛ وإلى هذا الرأي يميل المعري، وهناك من قال بأنه اسم ناتج عن نقيق الضفادع الكثيرة التي تحبه، فتجتمع أصواتها وتكون أشبه بصوت القاق، ويؤيد هذا الرأي الباحث المؤرخ الفقيه محب الدين بن الشحنة الحلبي، بينما قال فريق ثالث بأن الاسم يعني نهر الحور، وذلك تبعاً للفظة التركية، لأن منبعه العنتابي متخم بأشجار الحور، وغيرهم قال: قد يدل اسمه على لفظة عربية بدوية “قواق” تعني مجرى ماء المطر. وهناك من يعتقد بأن اسمه مأخوذ من ضريح الشيخ قويق، أمير حلب، سيف الدين أراغون الناصري، الذي استجرّ مياه نهر الساجور إلى مجرى قويق ليظل الخرير مغنياً للأشجار والعصافير والناس والمدينة.

لقد عاصر هذا النهر القديم مدينة حلب بمختلف أزمنتها وعصورها، وكان بمجمل رمزياته يعني الخلاص والسرعة، وماء الشفاء، وذلك لكثرة السلاحف التي تعيش فيه، وما زال جسر السلاحف يطلق على قسم منه قريب من البنك المركزي؛ وبكل تأكيد، ما زال يذكره “باب الجنان” الذي احتفى بأجداد الحلبية، وهم يستمتعون بجلساتهم الخارجية على ضفاف النهر ومتنزهاته، وتحت ظلال أشجاره الوارفة، ويقدرونه لدرجة أنهم عاملوه ذات فترة زمنية كنهر مقدس، ومنعوا صيد أسماكه المتنوعة، أو رمي الأوساخ في مائه العذب المترقرق مرايا تنعكس من شفافيتها سيرة أهل حلب.

 

النهر يتلصص على المبدعين

ولربما أخبرنا النهر، المسقوف حالياً، كيف شهدت إحدى ضفتيه ما كان يجري في أول صالون أدبي في العالم العربي في القرن 19 ميلادي، ألا وهو صالون مريانا مراش الذي كان يقام ضمن بستان أسرتها، ملفتين إلى أنها شقيقة فرنسيس مراش مؤلف أول رواية عربية “غابة الحق”، ليشارك النهر المجتمعين ما يتداولونه من الآراء والأفكار والكتابة والإعلام.

 

تتساءل النواعير والطواحين: أين آثاري؟

وقد لا يذكر الكثيرون أن مياه النهر الغزيرة كانت تدير طواحين الماء، وآخرها كانت أمام باب أنطاكية، لسقاية البساتين والأراضي الزراعية على جانبيه، بينما تلك التي تعلو مجراهُ قليلاً، فكانت تروى بالنواعير التي تديرها مياه قويق، وآخرها كان في محلة العينين باتجاه باب الجنان، ما يجعلنا نتخيلها حاضرة حتى الآن وهي تنشد للصنوبري:

فلكٌ من الدولاب فيه كواكبٌ   من مائه تنقضُّ ساعة تطلع

متلونُ الأصوات يخفض صوته بغنائــــــــــه طوراً وطوراً يرفـــــــع

أبداً حنين الذئب فيه مردّد   أبداً زئير الليث فيه مرجَّــــــع

لكن، ألا تسمعون أنين هذه النواعير والطواحين التي كانت هنا، وهي تتساءل معنا: أين آثاري وحكاياتي وأناشيدي التي جذبت الناس من الآفاق لزيارة حلب كمعلم حضاري استراتيجي لا تكتمل حياتهم دون رؤيتها والغوص معها والتأمل في أعماقها وعجائبها وغرائبها، تماماً كما فعلت “سيرانا” بالبحارة وهي تجذبهم من كل موجة إلى ملحمة هوميروس؟