مجلة البعث الأسبوعية

تراث حداثي وصوت أوبّريتي ملوّن بالتأمل والإصرار والامتداد حتى ما بعد الصمت “قمر حلب” لم يتريث.. وداعات كثيرة ستبقى مفتوحة في رحيل ميادة بسيليس

“البعث الأسبوعية” ــ غالية خوجة

حلب تفيض بثروة موسيقية استثنائية، ومن الموسيقيين والفنانين المبدعين نذكر: قدري دلال، صباح فخري، ميادة الحناوي، صبري مدلل، الشيخ حسن حفار، شادي جميل، وصولاً إلى ميادة بسيليس التي تموّج صوتها مع 14 ألبوم غنائي، وعبرتْ بنا بمراكب تراثها الحداثي وخصوصيتها من أوبريت ملكة القطن والثلج إلى كذبك حلو والمريميات ويا غالي ويا طيوب، وما بينها من تنويعات مثل المسلسل التلفازي المميز “حارس القدس”.

لقد جلجل صوت ميادة بسيليس، الشفاف والقوي، لينتشر كشبكة من الضوء في الأفئدة، لتظل تقرع “أجراس بيت لحم”، وتظل تغني لحلب والشام والقدس والحب والنصر والوطن “شوفو بلدي”. صوت بسيليس المشع بالحيوية يرفرف في الشغاف، بمساحاته الحالمة، المتفائلة، الدافئة، وخصوصيته الجاذبة للأوبريتيات والتراثيات والكلاسيكيات والطرب الأصيل المعاصر، منتوجها الفني يتميّز بعدة عناصر محورية، أهمها شخصيتها ذات “الكاريزما” العفوية، الواضحة الملامح، القادرة على التعبير عن المعنى الوجداني بمستوياته الرومانسية والكاشفة والمتحدية والمنتصرة، لتشمل بجاذبيتها الصوتية كلّ “أنا” للمتلقي عبْر الوسائط والوسائل المختلفة المسموعة والمرئية والالكترونية. لكن، ما أهمّ عناصر المعادلة الجمالية لهذا الصوت الطربي الخرافي؟

 

السحر التناغمي سرّ الجمال التفاعلي

لم تبتعد بسيليس عن الناس وهمومهم وأحلامهم ونبضاتهم، غنّتْ لهم وعنهم، فكانت مواضيع أغانيها تلامس اليوميات بتفاصيلها، وتدفئ بوجدانها الراقي وجدان الأجيال كافة، فغنت التراث والفلكلور والمعاصر والفن الذي لا يغادر، غنت للوطن وفاح صوتها بين مدينتها حلب، وأزهر مع ياسمين دمشق، وعطّر العالم العربي.

اتسمت أغانيها بأحاسيس المعاصرة بأسلوب حضاري مثقف، وحتى عندما استخدمت كلمة “كذبك” فإنها منحتها بعداً جمالياً، وحصدت هذه الأغنية، عام 1999، الجائزة الذهبية كأفضل أغنية عربية في مهرجان القاهرة، كما حصدت جائزة الأورنينا في مهرجان الأغنية السورية الرابع، عام 1998.

 

سيمفونية الروح وكثافة الشفافية

جمعت أغاني بسيليس سحراً مميزاً بين معادلة الكلمة واللحن، وقدمت مع صوتها ثالوثاً دلالياً خاصاً؛ كما تنوع منطوقها بين اللغة العربية الفصحى واللهجة المحكية، ما جعل لصوتها حركية محورية تنبع من الروح وتراتيلها لا سيما في “مريميات”، وتتسع لتكون الفضاء المتشكّل مع خلفية الصوت الأوبّريتي وأثره الملوّن بالتأمل، والإصرار والامتداد حتى بعد الصمت.

لمعت تجربة بسيليس مع الموسيقار سمير كويفاتي، زوجها، وشكّلت حالة فنية مختلفة، من الممكن أن تكون بوصلة لكثير من العائلات الفنية؛ أمّا على الصعيد الجمالي، فكان صوتها منارة لمتحولات اللحن المتمازج بين التراث الشرقي والمعاصر، ولمسات من التراث الغربي والمعاصر، مثل بعض التوزيعات الحديثة المناسبة لبعض الجمل الموسيقية الكلاسيكية، وبعض الملامح المتناغمة مع “الجاز” و”البلو”، إضافة إلى كلمات الأغاني التي تبثّ رسائل فكرية ووجدانية ووطنية ونقدية؛ وبإمكاننا إضافة توجيه البُعد النفسي والاجتماعي من الحيّز الرمادي والأسود إلى الحيّز المتفائل المشع بلحظة جديدة من التعامل مع الذات والأحداث والآخرين، لتشكّل هذه العوامل الفنية بتفاصيلها ومجملها سيمفونية الروح المتصاعدة إلى كثافة الشفافية.

 

فنها رسالة لمختلف الحالات والأزمنة

غنت بسيليس للعديد من الشعراء ومنهم الشاعر الحلبي سمير طحان، والشاعر صفوح شغالة الذي قال لـ “البعث الأسبوعية”: ميادة بسيليس فنانة ملتزمة، قدمت فناً راقياً، سيحيا أجيالاً وأجيالاً، وقدمت مع زوجها الموسيقار سمير كويفاتي مدرسة فنية رفيعة، تحمل رسالة وتبثها لكافة الحالات والأزمنة، وهذا هو الفن الذي يستمر.. قدمت أعمالاً رائعة بصوتها الملائكي الرائع، وأحب من أغانيها “يا طيّوب”، و”كذبك حلو”.

وأضاف: تعاملت معها بأغنية وطنية وحيدة “شوفو بلدي”، من تأليفي، وكانت هذه الأغنية افتتاحية مهرجان حلب عاصمة للثقافة العربية، العام 2008، ولدينا معاً أغنية مشتركة لم تكتمل بسبب مرضها وهي من ألحان سمير كويفاتي.

 

حياتها موسيقا لأوبريت كلامي

بدأت مسيرتها الفنية منذ ربيعها التاسع، من خلال إذاعة حلب التي سجلت فيها، عام 1976، دور “أصل الغرام”، وكانت الأولى على الهواة حينها، وقدمت عدة أوبريتات، بدءاً من عام 1978، و”عروس القلعة”.

وتوالت ألبوماتها الغنائية منذ العام 1986، بدءاً من ألبوم “يا قاتلي بالهجر” من الفلكلور السوري القديم، وقدمت الكثير من الحفلات داخل سورية وخارجها، وأحيت العديد من الحفلات، منها افتتاح قناة “الفضائية السورية”، و”مهرجان الأغنية السورية” الثاني، عام 1995، و”مهرجان المريمية” في حمص، و”مهرجان بصرى”، وعلى مدرج قلعة حلب، وساهمت في تقديم “الليلة السورية” في دار الأوبرا المصرية، وأقامت حفلتين في دار أوبرا مدريد الإسبانية، وحفلات أخرى، منها في قصر الأونيسكو في بيروت، وفي لوس أنجلوس، وفي مجمع قصر الفن الممتع في سان فرنسيسكو، وفي المسرح البلدي في تونس “مهرجان المدينة”.

نتيجة تجربتها الفنية المتميزة والهادفة والجادة والمتمحورة حول الإنسان والإبداع، نالت العديد من الدروع والتكريمات والجوائز، منها الدرع التذكارية عن أغنيتها “حنين” في مهرجان عيد الأم بعمّان الأردنية، وحصلت أغنيتها “خليني على قدي” على أفضل لحن في مهرجان الأغنية السورية، بينما نالت جائزة الأورنينا الذهبية عن عدة أغان، منها “حنين”، “يا غالي”، و”هوى تاني” التي حصدت، أيضاً، جائزة أفضل أغنية مصورة في البحرين كـ “فيديو كليب”، ولا ننسى كيف حصلت أغنيتها “يا رجائي” الجائزة الأولى في مهرجان الموسيقا العربية بالدار البيضاء بالمغرب.

 

جديدة على طبيعة الأغنية السورية

وعن تجربة ميادة بسيليس الطربية ومنتوجها الفني، وأهم ما يميزها صوتاً وكلمات وألحاناً، وأغنيتها الأكثر تأثيراً على القلب، يقول الكاتب والمسرحي د. وانيس بندك: تعارفنا أنا وسمير كويفاتي في الثمانينيات من القرن الماضي، عندما كان يحضر أعمالي المسرحية التي كنت أخرجها – حينها – لفرقة الشهباء بمدينة حلب؛ ومن خلاله، تعرفت – فيما بعد – على زوجته الفنانة القديرة ميادة بسيليس، وتوطدت صداقتنا عندما أسندت للفنان سمير كويفاتي أن يضع الموسيقا التصويرية لمسرحية الأديب الكبير وليد إخلاصي “من يقتل الأرملة”، والتي أخرجتها لصالح المسرح القومي بحلب، عام 1994، وكانت الفنانة ميادة تتابع باهتمام كبير، وخلال هذه الفترة، وما قبلها، تعرفت على صوت ميادة الذي تميز بالقوة والقدرة على أداء أصعب الأغاني والألحان. بعد ذلك بفترة وجيزة، انتقلا إلى دمشق، وبدأت مرحلة جديدة في حياة الفنانة بسيليس التي غنت معظم أغانيها من ألحان زوجها الفنان سمير، وشكّلا ثنائياً متميزاً في ثقافة الأغنية السورية والعربية، على مستوى الصوت الرائع لميادة، وألحان سمير الإبداعية، وتم اختيار كلمات الأغاني بانتقائية، وكانت جديدة على طبيعة الأغنية السورية؛ ولعل “كذبك حلو” للشاعر سمير طحان خير مثال على ذلك.. ميادة خسارة كبيرة للفن السوري والعربي.

 

الفن النبيل

الشاعر محمد حجازي، مدير دار الكتب الوطنية، رأى أن الفنانة الراقية بسيليس كانت أكثر من التزم بالفن الحقيقي الهادف كلمة ولحناً، كما أنها أثرت الفن السوري، وارتقت به إلى مصاف الفن النبيل، وسنظل نذكر أغنياتها “ما في شي مستاهل” التي تبعث التفاؤل والأمل، وأغنيتها الراقية “كذبك حلو” التي تعبر بشفافية مطلقة عن حميمية العلاقات الإنسانية وعمق جمالها، والعتب الخفي بين المحبين وبصوت ملائكي قلّ نظيره، ولن يجود الزمان بمثله حتى وقت طويل.

 

دهشة الغناء

أحلام استانبولي، معاون مدير الثقافة بحلب: سنذكر جيداً ما قدمته لنا ميادة بسيليس أكثر مما أخذته من هذه البلاد، أكثر بكثير، ووداعها سيكون شاهداً على سنوات طويلة كانت تدرب فيها دهشتنا على الهدوء والمفاجأة، وتعطينا أسباباً مدهشة للغناء.. وداعات كثيرة ستبقى مفتوحة في رحيل ميادة بسيليس، سوف تستعيد صورة المرأة وهي تنهض بقدرتها الفريدة على الغناء، كان لأغنيتها “كذبك حلو” وقعها في حياتي وتأثيرها في مشاعري بشكل كبير. وداع وحب وسلام لروحها الجميلة.. بسيليس سيدة هدوئنا النسبي، صانعة قدرتنا على التمهل، بصوتها التأني الذي لا يمهلنا كثيراً قبل أن ينتشر في ذاكرتنا كحاسة إضافية.

 

صوتها لوحات تشكيلية

التشكيلي إبراهيم داود، مدير المعارض باتحاد الفنانين التشكيليين بحلب: بسيليس تمثل البلد، وكل من يمثل البلد يمثلنا من طرب وفن وأدب.. تميز صوتها الطربي بالتفوق على الألحان والكلمات، لأن صوتها يجعلنا نحس بالروح، وهذا الصوت يمنحنا لوحات تشكيلية وجدانية ووطنية.

 

مبدعة لم تنصف

“أيقونة حلب”، هكذا بدأت الإعلامية عهد بريدي من “فريق مهارات الحياة”، مبدعة لم يتمّ إنصافها، هي لم تتخلّ عن طيبتها وبساطتها ولهجتها الحلبية المحببة، وهذا ما يميزها إضافة لعشقها لحلب، ولتنويعها في الغناء.. فعلاً، “كل شي رايح نيالو الرضيان”، وليتها فعلت مثل أغنيتها “يا قمر حلب هدّي”، لكنها أسرعت في الرحيل!!

 

المحبة الشجية

وبحزن يلامسنا جميعاً، أكدت الشاعرة والإعلامية إيمان كيالي: رحلت وتركت زهوراً عطرة في تاريخ حلب الفني، فنانة ذات صوت شجي وصداح، طلبت العلا ونالت ما تتمنى، كل أغنية قدمتها من روحها، غنت للأم والحب والشام والوطن، وأحبها أهالي حلب، رحلت جسداً وبقيت روحاً.

وتابعت: قدمت أول أوبريت غنائي “ملكة القطن والشمس”، عام 1978، وشاركت في برنامج “حكايات عمو رضوان” في إذاعة حلب، لتتوالى أعمالها ومشاركاتها الفنية في العديد من المهرجانات المحلية والعربية والدولية، كما أدت العديد من أغاني وشارات المسلسلات التلفازية، ومنها “حارس القدس”، و”أبناء القهر”، وأخوة التراب”، و”أيام الغضب”.

وأضافت كيالي: فنانة رائعة، غنت عن الحب فكانت الحبيبة، غنت عن الطيبة لأنها من أطيب الناس، وغنت عن الأم فكانت من أروع الأمهات، وهي صديقة صدوقة، رحمها الله، رحلت وهي توصينا: “ما في شي مستاهل ما في شي حرزان”.

 

 

الجنازة تغني للحياة

لم يكن الوسط الفني والثقافي يتوقع فاجعة بسيليس التي عانت من مرض السرطان طيلة 10 سنوات، وكانت حلب على موعد مع قداس رحيلها، يوم الجمعة 19 آذار، وتشييع جنازتها في كاتدرائية أم المعونات للأرمن الأرثوذكس بالتلل، بحضور عائلتها وأصدقائها ومحبيها وحشد كبير من الفنانين والفنانات، منهم أيمن زيدان، أمل عرفة، غسان مسعود، سلاف فواخرجي، وائل رمضان، سلافة معمار والموسيقار عبد الحليم حريري رئيس فرع نقابة الفنانين بحلب؛ وكانت جدران الكنيسة وشوارع حلب تستعيد سيرة الراحلة ميادة بسيليس بهدوء دامع مع صوتها وتراتيله الملائكية.. صوتها الذي رافقها أثناء جنازتها في موكب مهيب، وهو يوشح مدينة حلب وأهاليها بحزن مضاف إلى الحزن السوري الذي يختتم ألوانه بعادة الانتصار.

سيظل صوتها حاضراً مع الغيوم والأشجار والعصافير والقلوب الطاهرة ليسرد مسيرتها الفنية. الجناز عبر بجثمانها شوارع حلب، وكأنها تودعها للمرة ما قبل الأخيرة، لأن روحها ستظل تزهر مع كل آذار إبداعاً جديداً يتفتّح مع الأجيال وأعياد الأم والوطن والحب والقلوب.. الجناز عبر والتابوت الأبيض المزهر بصوتها الذي رُسم عليه مفتاح “الصول” بالورود البيضاء.