مجلة البعث الأسبوعية

لا جدوى من “الاستنفار” إن لم يتوقف التجار وحيتان المال عن المضاربة ورفع الأسعار؟  

“البعث الأسبوعية” ــ علي عبود

ليست المرة الأولى التي تجتمع فيها الحكومة مع اتحاد غرف التجارة لطلب مساعدته بلجم ارتفاع الأسعار ووقف عمليات المضاربة وتهريب الدولار إلى الخارج، ولكن ما ميز الاجتماع الأخير، في الثالث من آذار الجاري، أنه اكتسب طابع “الاستنفار” بعد التدهور الكبير والخطير للأسعار ولسعر الصرف، والذي وصل إلى مستويات غير مسبوقة. وإذا استندنا إلى تجارب الاجتماعات السابقة، فإننا سنستنتج سريعا بأن حصيلة “الاستنفار” ستكون “صفراً”، أما لأن اتحاد غرف التجارة غير قادر، أي “لا يمون” على التجار وقطاع الأعمال وحيتان المال، أو أنه لا يريد أن يدخل في نزاع مع “إخوة الكار”، ويعتبر بالتالي إن مسؤولية الأسعار والمضاربة تقع بكاملها على عاتق الحكومة!!

وفي كل اجتماع لغرف التجار مع جهات حكومية، على مختلف مسمياتها ومندرجاتها، تتكرر مطالب لا تنتهي يرى أصحابها أن عدم تنفيذها يتسبب برفع الأسعار وإضعاف الليرة والمضاربة على الدولار.. إلخ.

والسؤال: هل لدى الحكومة إجراءات أو آليات، لم تتخذها حتى الآن، من شأنها إلزام قطاع الأعمال والتجار وحيتان المال بوقف المضاربة على الليرة ورفع الأسعار، أم أنها عاجزة عن الفعل، وبالتالي سيبقى رهانها على وطنية أو ضمير، أو حتى ما تبقى من جانب إنساني لدى من يصر على رفع الأسعار وعمليات المضاربة؟

 

لسنا وحدنا من يعاني

ولعل الإشكالية الكبرى التي نواجهها عندما يتحدث الكثيرون عن الأسعار والدولار هي أننا وحدنا الذين نعاني من الحصار والعقوبات و.. جشع التجار!

ولو كنا فعلا وحدنا من يعاني، ولا نتعرض لأي عقوبات أو حصار، لتمكنت الحكومة من إيجاد الحلول لمشكلتي الأسعار والدولار ولشح المواد الأساسية التموينية والمحروقات. ولكن عندما تكون الدول الصديقة والحليفة تعاني أيضا من العقوبات والحصار فمن الطبيعي أن تكون الحلول لما نعانيه مهمة صعبة. وإذا كانت دول مثل الصين وروسيا وإيران تتأثر بالعقوبات فإنها قادرة ليس على مواجهة العقوبات فقط، وإنما الرد بالمثل عليها أيضا، وهذا غير متوفر لدى سورية فليس أمامها من سبيل سوى الاعتماد على الذات، أي تفعيل قطاعي الإنتاج بشقيه الصناعي والزراعي، وهذا الحل الناجع أهمل دون أي مبرر.

وما يزيد معاناتنا أن دول الجوار إما تعاني من أزمات حادة مالية ومصرفية واقتصادية تجسدت بانهيار عملتها وبارتفاع جنوني للأسعار، كلبنان، أو أنها تشارك بالحصار على سورية، مثل الأردن ومصر، فتمنع وصول إمدادات المحروقات والسلع أو تعرقل تصدير منتجاتنا. أما المعاناة الأكبر فهي باحتلال المناطق التي تعتبر خزان سورية الغذائي والنفطي، ومنع المحتل الأمريكي من التواصل الجغرافي بين سورية والعراق لعرقلة أي تبادل تجاري بين البلدين.

وكما قلنا فإن الإشكالية أن بعض المحللين يطرحون حلولا، وكأنّ سورية تعيش باستقرار وسلام، وبأن دول الجوار تقيم معها علاقات اقتصادية سليمة. أما معظم رجالات قطاع الأعمال وحيتان المال فلم يتصرفوا حتى الآن من منطلق وطني أو إنساني، فهم يجدون في الحرب والحصار والعقوبات مجالا واسعا، وفرصا من ذهب لشفط المليارات وتحويلها إلى دولارات وتهريبها إلى الخارج. وأمام هذا الواقع المعقد، من الطبيعي أن تلجأ الحكومة إلى من بيده القدرة على لجم الأسعار والدولار، أي التجار والصناعيين وتستنفرهم، ولكن هل سيستجيبون؟ أم سيستمرون بالمساهمة في زيادة معاناة البلاد والعباد؟

 

المسؤولية المشتركة

وفي هذا السياق، من الطبيعي أن يركز رئيس الحكومة على أهمية تكاتف الجهود للحد قدر الإمكان من تأثير الحصار الاقتصادي على الواقع المعيشي للمواطني، لأن “الظروف الراهنة تتطلب تحمل كافة مكونات المجتمع المسؤوليات الملقاة على عاتقها، والتحلي بروح المبادرة، ودعم الجهود الحكومية الرامية لتنشيط الأسواق”.
ومطلب الحكومة خلال اجتماعها الأخير مع مجلس إدارة اتحاد غرف التجارة السورية لم يكن جديدا، وهو “محاربة التهريب وعمليات المضاربة على الليرة”، لكن هذا المطلب يكتسب أهمية استثنائية في هذه المرحلة لأننا لا نتأثر بالحصار والعقوبات فقط، وإنما أيضا بازمات دول الجوار من جهة، وبصعوبة وصول المساعدات والتوريدات من جهة أخرى بفعل حصار “الأشقاء”!

وبما أن المنعكسات المباشرة تظهر في السوق المحلية، أي في ارتفاع الأسعار وانسياب المواد، فمن الطبيعي أننا لن نشهد استقراراً في الأسعار إن لم تكن إدارة السوق مسؤولية مشتركة بين الجهات الحكومية واتحاد غرف التجارة؛ ويبدو إن التجار غير مستعدين لإدارة السوق مع الحكومة، بل إلى احتكار الأسواق والأسعار والمواد، بما يضمن أرباحا فاحشة لهم تتزايد يوما بعد يوم!

 

التشاركية فعل أم وهم؟

ومن يسعى إلى الاحتكار سيرفض تشارك المسؤولية، لا مع زملاء “الكار”، ولا مع أي جهة حكومية.

لقد خاب أمل الحكومات السابقة بتعويلها على قانون التشاركية بين العام والخاص، فلم نشهد مشاريع فعلية تجسد مضمون القانون، ولو بالحد الأدنى اليسير الذي يركز على الإنتاج والتصدير، لا على الاستيراد والمضاربة وتهريب الدولار!!

لقد بالغنا كثيرا في الحديث خلال السنوات الماضية عن تعزيز الشراكة مع قطاع الأعمال، وتوفير متطلبات توسيع نشاطاته، فهذا القطاع ليس أكثر من شركات عائلية نشاطها التجاري سري، وتقوم بالتهرب الضريبي وتحويل أرباحها إلى دولارات وتهريبها إلى الخارج.

والمسألة لم تكن يوما صعوبات تعوق النشاط التجاري أو مشاركة اتحاد غرف التجارة في مناقشة القرارات الاقتصادية، فغالبا ما يكون وزير الاقتصاد من القطاع الخاص، وهناك دائما ممثلون للقطاع الخاص في مجلس الشعب، بل إن وزارة المالية المتشددة مع الجميع تراعي اتحاد غرف التجارة، وتؤجل قرارات وقوانين يرفضها التجار كالفوترة والأتمتة. والمسألة الجوهرية كانت تتمحور، ولا تزال، وستستمر حتى أمد قد يكون بعيدا جدا، حول سؤال: هل التجار ورجال الأعمال وحيتان المال شركاء وطنيون حقيقيون يتعاطون بمسؤولية مع الظروف الإستثنائية القاهرة التي تمر بها سورية، فيعززون قيمة الليرة، ويلجمون ارتفاع الأسعار، والمضاربة بالدولار، ويوقفون تهريبه إلى الخارج ، أم ليسوا سوى تجار ومضاربين لا تهمهم البلاد ولا العباد؟

والسؤال: هل تطرقت الاجتماعات الأخيرة بين اتحادي غرف التجارة والصناعة والتي اكتسبت صفة “الاستنفار” إلى تبني أية خيارات من شأنها وقف عمليات التهريب والمضاربة والارتفاع الجنوني للأسعار؟

 

معزوفة زيادة الإنتاج

وبما أن المشكلة منذ سنوات، ومحورها الارتفاع الكبير للأسعار، وتراجع القوة الشرائية لليرة أمام الدولار، فمن الطبيعي أن يكون الحل لدى القطاع الصناعي بشقيه العام والخاص، ذلك أنه بالإنتاج الوطني يمكن توفير السلع البديلة للمستوردة، وتخفيض الطلب على الدولار، بل وزيادة التصدير المدرّ – لا المستنزف – للقطع الأجنبي. ولن نأتي بجديد بقولنا مع الكثيرين: الإنتاج وحده يدعم الليرة السورية؛ ولكن من المؤسف أن تتحول هذه البدهية إلى معزوفة ممجوجة، فما من حكومة حولتها، منذ عام 2011 على الأقل، إلى فعل ملموس وحقيقة واقعة!!

 

وصفة الصناعيين لتقوية الليرة

وإذا استعرضنا مطالب الصناعيين المتكررة مع كل رؤساء الحكومات السابقين سنكتشف أنها وصفة مناسبة جدا لما تعانيه سورية من مصاعب اقتصادية ودولارية، وهي وصفة لا سحرية لأننا سبق وجربناها وحققت لنا الاعتماد على الذات واحتياطيا كبيرا من القطع الأجنبي وصفر مديونية. وتتمحور هذه الوصفة حول تطوير التشريع الضريبي، ودعم التبادل التجاري مع الدول الصديقة، والإسراع باستصدار قانون الاستثمار، وتقديم التسهيلات لإعادة تأهيل المعامل المتضررة من الإرهاب، وتوفير حوامل الطاقة اللازمة للإنتاج الصناعي، وقصر الاستيراد على مستلزمات الإنتاج، وتشجيع الصناعات التصديرية، وتقديم المحفزات لاستقطاب رجال الأعمال المغتربين للاستثمار داخل البلاد.

أليس مستغربا ألا تكون هذه العناوين محور عمل وخطط جميع الحكومات؟
وبما أن رئيس الحكومة أكد خلال الاجتماع أن دعم الإنتاج الصناعي أولوية في العمل الحكومي لتأمين احتياجات المواطنين الأساسية واستهداف أسواق تصديرية جديدة، فهل ستتم ترجمة هذا الدعم بقرارات وإجراءات وبقوانين عند المقتضى؟

الملفت أن رئيس الحكومة شدد على أهمية التشبيك بين القطاعات الإنتاجية الصناعية والزراعية لتحقيق الاكتفاء الذاتي وتخفيض فاتورة الاستيراد، لأن “الجميع معني بدعم الليرة السورية وضرورة تكاتف الجهود لمواجهة عمليات المضاربة وزيادة العملية الإنتاجية”. وربما هي المرة الأولى التي يدعو فيها رئيس الحكومة اتحاد غرف الصناعة إلى “تقديم الرؤى والمقترحات التي من شأنها دعم الصناعة المحلية باعتباره شريكاً تنموياً مهماً ليصار إلى الاستفادة منها في القرارات الحكومية المتخذة لمساعدة الصناعيين على توسيع نشاطاتهم الإنتاجية”.

 

ليس عصا سحرية

وكشف رئيس اتحاد غرف الصناعة السورية فارس الشهابي أنه “تم طرح جميع الهموم التي تقف عائقاً أمام خلق بيئة استثمارية وإنتاجية وكل التفاصيل التي تساعد في تحسين سعر الصرف”، وأكد جازماً: “تحسين سعر الصرف ليس عصا سحرية يتم بعمل واحد، وهو عبارة عن عدة قرارات وإجراءات مطلوبة إذا اجتمعت سوية تعطي بنياناً قوياً يضع سعر الصرف على الطريق الصحيح”.

وشدّد على ضرورة سد الثغرات التي يتسرب منها الدولار وأهمها البيوع العقارية الكبيرة التي تُهرّبُ أموالها إلى الخارج والمعابر التي يُهرّبُ عبرها الدولار لشراء المهربات التركية.
كما شدد الشهابي على اتخاذ إجراءات أخرى كإيقاف استيراد منتجات نحن لسنا بحاجة إليها، وحصره باستيراد مستلزمات الإنتاج، وحصر القروض بالقطاعات الإنتاجية التصديرية.
ورأى رئيس غرفة صناعة دمشق وريفها سامر الدبس أن القـطاعين الصناعي والزراعــي هما القـــــادران على التحرك في هذه المرحلــة بالتصـــدير. ولفت إلى ضرورة ضرب مواقع المضاربة على الليرة عبر مواقع التوصل الاجتماعي لما لها من دور سلبي كبير في رفع سعر الصرف من دون وجود أسباب حقيقية.

ورأى الدبس أن القطاع الصناعي ليس ضاغطاً على القطع الأجنبي، والصناعيون يشترون قطعاً بالحد الأدنى لتأمين موادهم الأولية، لكن هناك قوى مضاربة في السوق هي من تصنع البلبلة.
وأكد أن مصلحة الصناعي والمواطن والدولة واحدة، موضحاً أن ارتفاع السعر في الأسواق يضر الصناعي كما يضر المواطن، لأن القدرة الشرائية محدودة لدى المواطن والمستودعات امتلأت بالبضائع،

وأشار إلى أن الغرفة اقترحت أن الحل هو باتفاقيات التبادل التجاري وخاصة التصدير للدول المجاورة والصديقة.

 

التهديدات ليست حلا

وبما أن التجار لن يخفضوا الأسعار ولن يتوقفوا عن تهريب الدولار، فإن على الجهات الحكومية المعنية بالأسواق – وهي كثيرة – أن تلجأ إلى إجراءات للتخفيف من معاناة ملايين الأسر السورية. ولا يهم المواطن إن ارتفع أم انحفض الدولار إن كان دخله يؤمن مستلزماته الأساسية.

قلناها مرارا ونعيدها مجددا: إن التهديد ليس حلا ولن يلغي تأثير سعر صرف الدولار على ملايين السوريين.. الحل الذي يهزم الدولار ويلغيه من حياة ملايين السوريين يكون ببيعهم سلة غذائية تحتوي على الاحتياجات الأساسية بأسعار رمزية جدا لأن دخلهم تحول بقوة الأمر الواقع إلى رمزي جدا!