دراساتصحيفة البعث

من بوش الابن لبايدن.. استراتيجية “استنزاف” الشرق الأوسط

محمد نادر العمري

 

يمكن لأي مراقب ومتابع ومهتم بمسار التفاعلات والتطورات المتسارعة في الشرق الأوسط مؤخراً، والحركة الروسية في الخليج، والزيارات التي يقوم بها وفد حزب الله إلى روسيا، أن يلمس جهوداً تتضمن وجود محاولة لتحريك المياه الراكدة في هذه الرقعة الإقليمية من النظام الدولي بعدما وصلت الأمور إلى مرحلة الاستعصاء، وعدم قدرة أي طرف دولي أو إقليمي على التقدم في استراتيجيته لفرض قوته وتكريس نفوذه المطلق، أو رؤيته لمسار تطور الأحداث.

تعيش منطقة الشرق الأوسط منذ بداية ما سمي بـ “الربيع العربي” مرحلة غير مسبوقة وغير مألوفة أُعيد فيها رسم خطوط التحالفات والصراعات بطريقة مختلفة عما عاشته بعد مرحلة الانهيار السوفييتي السابق، ومنذ عهد أوباما الثاني (2012-2016) في البيت الأبيض، وخصوصاً بعد فشل مشروعه الأساسي، حيث دخلت المنطقة مرحلة ما يمكن تسميته بـ “الاستنزاف”، ولاتزال لغاية تاريخه، فعلى الرغم من انخراط دونالد ترامب في مسار تحالفي مختلف عن سياسة أوباما، فإن “استراتيجية الاستنزاف” الأمريكية بقيت على حالها، ولكي نفهم التوجهات الأمريكية لتطبيق “استراتيجية الاستنزاف” التي تبنتها إدارة أوباما، واستكملها ترامب، وسعى بايدن للاستمرار في تطبيقها، لابد من العودة إلى أهداف الاستراتيجية الأمريكية في المنطقة بشكل عام منذ جورج بوش وحتى اليوم.

استخدام القوة بذريعة مكافحة الإرهاب

بعد 11 أيلول 2001، قامت إدارة الرئيس الأمريكي جورج بوش بتنفيذ خطة “طموحة” لتغيير شامل في الشرق الأوسط يبدأ من العراق، وينتشر كرقعة الدومينو إلى كل أنحاء الوطن العربي، لكن فشل الخطة، وتسببها بكلفة مالية ضخمة قدرت بتريليونات الدولارات، وغرق الجيش الأمريكي في المستنقع العراقي بفعل المقاومة، وانتكاس أهداف عدوان تموز 2006، فرضت كلها تغييراً شاملاً في الاستراتيجية الأمريكية، وأدت إلى توقيع الاتفاقيات الأمنية، واتفاقية الإطار الاستراتيجي في عام 2008.

في هذه الفترة، وخلال العقد الأول من القرن الحادي والعشرين، وفي ظل انخراط الولايات المتحدة في الشرق الأوسط، وعى الأمريكيون أن الصين استطاعت أن تحقق قفزات هائلة على الصعيد الاقتصادي العالمي والجيوبوليتيكي، وبدأت مراكز التفكير الأمريكية، ومنشورات الجيش الأمريكي، تتحدث عن أن تقدم الصين على الولايات المتحدة، وتشكيلها تحدياً حقيقياً على صعيد القيادة العالمية، هما مسألة وقت فقط.

ترتيب الشرق الأوسط “التوجه نحو آسيا

مع مجيء أوباما إلى البيت الأبيض في عام 2008، كانت أمامه مهمات ثلاث أساسية: احتواء الصين، وإخراج أمريكا من تداعيات الأزمة الاقتصادية العالمية التي بدأت داخلياً بانهيار البنوك الأمريكية، وتصفية التركة الثقيلة التي تركها له بوش في الشرق الأوسط.

هكذا، أعلن استراتيجية “التوجه نحو آسيا” التي تعني القيام بترتيبات تسمح بحفظ المصالح الأمريكية في الشرق الأوسط من دون انخراط مباشر في ذلك تحت مسمى “القيادة من الخلف”، وتوجيه القدرات العسكرية والدبلوماسية والاقتصادية لاحتواء الصين، فانخرط الأمريكيون في مشروع هيلاري كلينتون لتحقيق المصالح الأمريكية وترتيب الشرق الأوسط عبر التحالف مع الإسلام السياسي “الإخواني” (بقيادة تركية) لحكم العالم العربي، كبديل عن “حلف الاعتدال” الذي تتزعمه السعودية، تحت عنوان ومسميات ما عرف لاحقاً بثورات “الربيع العربي”، ومع انتهاء عهد أوباما الأول، بدا أن مشروع هيلاري كلينتون فشل كلياً، وقد أدى فشله إلى انخراط أمريكي أكبر في المنطقة بدلاً من أن يخففه لمصلحة “التوجه نحو آسيا”، وانتشرت الجماعات الإرهابية، وعاد الجيش الأمريكي إلى العراق في عام 2014 بعد أن انسحب منه في عام 2011.

هكذا، تحول الأمريكيون في عهد أوباما الثاني إلى “استراتيجية الاستنزاف”، أي قيام الأمريكيين بالاستفادة من “حرب الكل ضد الكل”، للاستفادة من تحقيق توازن عسكري يؤدي إلى استنزاف الروس والإيرانيين وسورية والمقاومة في قتال حتى الموت مع المجموعات المسلحة الإرهابية في سورية والعراق ولبنان.

إدارة التناقضات وافتعال الأزمات

مع فوز حملة إدارة الجمهوري دونالد ترامب في انتخابات عام 2016، أبدى رغبته في الانسحاب من المنطقة، وفضّل التفاهم مع الروس على ترتيبات تسمح له بالخروج من المنطقة للتفرغ لاحتواء الصين- بحسب أولويات الاستراتيجية الأمريكية- كانت خطته تقضي بتفكيك التحالفات التي تشكّلت خلال عهد سلفه باراك أوباما، وخصوصاً التحالف الصيني- الروسي، والتحالف الروسي- الإيراني، وذلك عبر إعطاء مكاسب لروسيا في المنطقة العربية وأوكرانيا مقابل خروجها من التحالفات المتشكّلة، ما يسهّل مواجهة كل من الصين وإيران، وهي الخطة نفسها التي أدت إلى تضعضع “البريكس”.

واجهت إدارة ترامب عراقيل وتحديات عدة داخلية وخارجية منعت تطبيق الخطة الأولية، فكان الاستمرار في استنزاف الإيرانيين وحلفائهم عبر الوسائل الاقتصادية، وليس العسكرية، عبر سلسلة من العقوبات الاقتصادية التي وصلت قمتها مع رحيله، وهي سياسة شبيهة بالتي فعلها أوباما، ولكن لم تكن بهذه الدرجة من التأثيرات.

مسك العصا من المنتصف

تجمع كل مراكز الدراسات أن أمام بايدن بلا شك مهمات صعبة جداً خارجياً وداخلياً، فقد ترك له ترامب عالماً مختلفاً، لقد أدت قيادة الأخير للولايات المتحدة إلى مشاكل مع الحلفاء، والخروج من الاتفاقيات والمنظمات الدولية، وإلى مجتمع أمريكي منقسم على ذاته، ارتفعت فيه نسبة العنصرية، وجرائم الكراهية، وساد فيه الانقسام السياسي حتى طال العلم والجيش الأمريكي وكورونا واللقاح، وكما يبدو لن يستطيع الديمقراطيون التخلص من سطوة ترامب الداخلية بسهولة، وعلى الرغم من أن أولويات الاستراتيجية الأمريكية مازالت احتواء الصين وروسيا، ولكن، ماذا يفيد الأمريكيين الانصراف إلى الردع والمواجهة الخارجية في وقت يتداعى الهيكل الداخلي؟.

هكذا، يبدو أن التهدئة، وإدارة النزاع، وتخفيف الانخراط اليومي الأمريكي في شرق أوسط ملتهب، عبر ترتيبات سياسية تحفظ مصالح ونفوذ الأمريكيين في المنطقة، كما تحفظ أمن إسرائيل، هي المسار الأفضل الذي يمكن أن يحقق لجو بايدن وإدارته أمرين: الأول التفرغ للأولويات الداخلية لتحقيق إنجازات تمهد للانتخابات النصفية في عام 2022، والانتخابات الرئاسية 2024، والآخر احتواء الصين التي بدأ اقتصادها يتعافى من جائحة كورونا، بينما لم يخرج الأمريكيون من الجائحة بعد، وفي الوقت ذاته احتواء الخطر الأكبر “روسيا الاتحادية”!.

يبدو هذا المسار منطقياً من الناحية العقلانية، وحسابات “الربح والخسارة”، ولكن تبقى العوائق أمامه مرتبطة بالآليات الهشة في قدرة إدارة بايدن وحلفائه الأوروبيين على احتواء روسيا، انطلاقاً من عدم رغبتهم في إعطائها دوراً أكبر في منطقة الشرق الأوسط، والضغوط الداخلية والحملات الإعلامية من الجمهوريين التي قد تفرمل اندفاعته وخطته الأولى في تخفيف التشنج والاقتتال في المنطقة.