مجلة البعث الأسبوعية

النقوش الأشورية.. رسالة جمالية وروحية!

“البعث الأسبوعية” ــ علي اليوسف

تكشف النقوش الآشورية المعنى الحقيقي لعظمة الملوك في تلك الحقبة الزمنية؛ وللوهلة الأولى تبدو الألواح التي تعود للقرن السابع قبل الميلاد، والتي كانت تزين جدران القصور الملكية في أعالي بلاد ما بين النهرين، عبارة عن فوضى صور ومنحوتات، لكنها في الحقيقة وبعيداً عن السردية السطحية تصاوير لرسالة جمالية وروحية. وعلى الرغم من أن هناك القليل من الشك في البراعة المتناهية للفنان المنسي المسؤول عن هذه المعجزة بإزميله وعرقه، إلا أن ما تتوق إليه الأعين هو المعنى الأعمق للعمل، والتفاصيل الدقيقة التي تكشف عن الرمزية السرية لهذه التحف الرائعة.

اهتم الفنان القديم الذي صمم نقوش مطاردة الأسد بالتعبير عن شكل وملمس القرط الكبير الذي يتدلى من الفص الأيسر لآشور بانيبال فيما يسميه المؤرخون “مشهد السهم”. قطعة مجوهرات حادة وملساء للغاية، حيث يشعر المرء أن الملك قد يرمي قوسه في أية لحظة، ويمزق “القرط”، ويقذفه به مثل سلاح نينجا صوب خصومه من الحيوانات المفترسة.

يكشف الصحفي المختص بالشؤون الفنية، كيلي غروفير، كيف تم استخدام الصور التي تمثل عملية الصيد على مراحل لإعلان عظمة الملك. يقول: بعيداً عن القبضات المشدودة، والسهام الكثيرة، والرماح المائلة، فإن ما يلفت الانتباه هو قطعة المجوهرات التي تنفجر من حدودها بإشعاع خارق مثل جرم سماوي، وتحول الفعل الساكن من سردية خشنة – مهما كانت اللوحة مصنوعة بدقة – إلى شيء أكثر تعاطفاً. وهو ما يدعو للتأمل في ترابط كل هذه الأشياء لفهم كيفية عمل هذه المنحوتة.

وفي الواقع، لولا الامتداد المستمر للطقس الرطب في بلاد ما بين النهرين، في منتصف القرن السابع قبل الميلاد، لما كانت هذه المنحوتات الآسرة قد ظهرت على الإطلاق. هذا الطقس كان مواتياً للحيوان والنبات على حد سواء، حيث سمحت الأراضي المروية للأسود بالازدهار في التلال الخصبة التي تحيط بمدينة نينوى، مركز الثقافة الآشورية. ومع تزايد عدد الأسود بشكل كبير، أصبح زئيرها المخيف جانباً من جوانب الحياة اليومية، وكذلك شهيتها.. كانت الماشية والمزارعون الذين قاموا بتربيتها هدفاً متزايداً لجوع الأسود وعدوانيتها. وكان التهديد الذي شكلته الأسود كبيراً جداً، وكانت إحدى مسؤوليات ملوك آشور التعامل مع هذا الخطر، حتى أن الختم الملكي يصور الملك في قتال باليد مع أسد منتصب.

عندما تم بناء مسكن جديد لأحدث شاغلي العرش الآشوري، الملك آشور بانيبال، الذي حكم من 699 إلى 631 قبل الميلاد، تم تكليف فنان بتزيين جدران القصر الشمالي بنقوش لا تكتفي بالتأريخ للحملات الدائمة ضد الحيوانات المفترسة، بل وتمجيد قتالها. استغرق تزيين جدران القصر 10 سنوات، وكانت النتيجة جولة إبداع جمالية حددت البعد الحضاري للتاريخ الثقافي بالسرعة نفسها التي تم بها الانتهاء منه.

بعد أقل من عقدين على اكتمال العمل، في العام 635 قبل الميلاد، تم إقصاء نينوى، في العام 612 قبل الميلاد، من قبل تحالف من الأتباع السابقين شمل البابليين والكلدان والفرس، ودفن ذلك الكنز الفني تحت الأنقاض مدة 2000 عام. كانت إعادة اكتشاف النقوش المنسية إنجازاً رائعاً لعالم الآشوريات العراقي، من القرن التاسع عشر، هرمزد رسام، الذي أشرف بين عامي 1852 و1854 على أعمال التنقيب عنها، وساعد في ترتيبات نقلها إلى المتحف البريطاني.

هذا النوع من المنحوتات هو بالضبط ما يظهر القوة التخييلية للنقوش التي تصور العداء بين القاتل والمقتول، حتى يبدو الأمر كما لو أن الملك والأسود – الخصمان اللذان صورهما النحات القديم بالقدر نفسه من البطولة والتعاطف – يشغلان عالماً خارج المخيلة.

هذا هو المكان الذي تظهر فيه أهمية “قرط” آشور بانيبال المشع، ليصبح أحجية مهمة ليس فقط لفهم العلاقة المعقدة بين هاتين القوتين المتكاملتين – الصياد والمطاردة – ولكن لإنقاذ آشور بانيبال نفسه من العبث الأبدي. بعبارة أخرى، أظهر النحات الذي وضع الاستراتيجية الجمالية للنقوش أن الحاكم قادر على هزيمة خصمه مرة واحدة وإلى الأبد، والسر في ذاك “القرط” الذي يشكل وحده أيقونة العمل.

 

رمز الأسد والملك

للوهلة الأولى، يبدو أن قطعة المجوهرات ليست أكثر من مجرد رمز شمسي بسيط مخادع يزدهر بمصابيح شائكة، وهي زخرفة تبرز تألق الملك. وبالنظر عن كثب، فإن البتلات البراقة التي تنطلق بشكل واضح من مركز القرط لا تعكس فقط رؤوس الأسهم الحادة التي تشترط قوة الملك، بل والمخالب والأنياب التي تهدد بسحقه. وبذلك يكون القرط نوع من التعويذة المركبة، التي تمتص أبدية الشمس المشعة، وتمنح الملك قوته التي لا تقهر.

هناك كل الأسباب التي تدفع لإدراك المغزى الحقيقي للقرط الذي يكوّن إشارة رمزية إلى أسلحة الصيد وهدفها في أساطير بلاد ما بين النهرين. وبالفعل، كانت الشمس مرادفة للإله آشور الذي اشتق منه اسم الملك، حتى الميداليات الحجرية المكتشفة قبل اللوحات المنقوشة كانت تصور آشور المجنح، والقوس في يده، وتحيط به الشمس بهالتها. ولا شك أن معنى هذه الصلة يكمن في الصلة القديمة بين الشمس والأسد، وهي صلة تعود إلى بداية ظهور الأبراج الفلكية قبل آلاف السنين من حكم آشور بانيبال. “العلاقة القديمة بين إله الشمس والأسد” تنعكس في تقاليد الأبراج، وهي في الأصل من بلاد ما بين النهرين.

لذلك، فإن “القرط” ولوحات المرمر مادة من أسطورة خالدة، ما يعني أن الصياد والطريدة يعرفان بعضهما: هما الترسان الأبديان في محرك الوجود اللانهائي. ولتمجيد الملك، يجب تأليه الأسد أيضاً، ما يعني بالتالي أنه مهما كانت المعركة بينهما وحشية فإن الحياة نفسها تعتمد على الصراع، ولهذا توضح النقوش أن الملك والأسد واحد.