مجلة البعث الأسبوعية

بعد أن “تمردت” بفعل أعراف وقواعد مشبوهة.. حل “عُقدة أسواق الهال” كفيل بحل “عُقدة الأسعار”!!

“البعث الأسبوعية” ــ حسن النابلسي

إذا ما أرادت وزارة التجارة الداخلية وحماية المستهلك كسر حدة الأسعار وخاصة الخضار والفواكه، فما عليها إلا كسر حلقة أسواق الهال، أو على الأقل ضبطها، فالأخيرة يكتنفها الكثير من الممارسات المشبوهة من قبل سماسرة برعوا بسن أعرافٍ وترسيخ قواعد أضحت أقرب ما تكون لقوانين خاصة بهذه الأسواق جعلت “التمرد” أبرز صفاتها، إذ باتت هذه القواعد ترجح الكفة لتجارها وسماسرتها عند أية عملية بيع أو شراء.. هذا أولاً!!

أما ثانياً فعلى الوزارة أن تضع نصب عينيها أن سعر الصرف بات الشماعة التي يُعلق عليها تمرد أسعار المواد والسلع، لاسيما الزراعية منها، والمرتبط ازدهارها وانتعاش أسواقها بالمتغيرات المناخية بالدرجة الأولى، وبمدى عدم تعرضها للأمراض والأوبئة واهتمام الفلاح بمحصوله بالدرجة الثانية.

 

عمولات ولكن..!

ولدى الخوض في ثنايا سوق الهال بدمشق للوقوف على خفايا السوق وما ينتابه من ملابسات أفضت لتكريس قاعدة “التجارة ربح وربح فقط..”، تبين أن ثمة أعرافا ومبادئ ضلالية خطّها رموز السوق وحيتانه تضمن لهم وبشكل مستمر الربح الكثير، دونما تأثر بمعطيات الواقع الاقتصادي، من تذبذب سعر الصرف واختلال مبدأ العرض والطلب وارتفاع أو انخفاض أجور النقل.. إلخ. وهنا يجمع معظم الفلاحين الموردين إلى السوق أن تجار السوق يحددون نسبة العمولة “السمسرة” بشكل ثابت في كل مواسم السنة بـ 6% من قيمة المحصول المورد بالنسبة لبائعي نصف الجملة، و7% لبائعي الجملة، بغض النظر عن نوعية المنتج أو كميته، أو حتى مدى استفادة الفلاح منه.

وليس هذا وحسب، بل يقوم السماسرة أيضاً بخصم 1.5 كغ من كل صندوق كرتوني مهما كان نوع المنتج المعبأ فيه، بحجة أن هذا الخصم هو عن وزن الصندوق – علما أنه أقل من ذلك – إضافة إلى خصم ما نسبته 3% من وزن المنتجات المعبأة بصناديق مصنوعة من مادة الفلين للسبب نفسه؛ كما أن السماسرة يجبرون الفلاح على التنازل عن 200 كغ مجاناً عند توريده حمولة تزن 3 طن، إضافة إلى التنازل عن 150 كغ بنصف القيمة من الحمولة الموردة نفسها، وإذا كان وزن الحمولة 7 طن يصبح العطاء الإجباري 500 كغ، وكمية المبيع بنصف القيمة 200 كغ.

 

وراء الكواليس

وللأسف، هذه القواعد المتمردة على السوق وأدبياتها تحاك من وراء الكواليس، وتلعب دورا ليس بالقليل لتحديد أسعار المنتجات الزراعية دون مراعاة وضع الفلاح المورد لهذه الأسواق، والذي غالبا ما يكون ضحية ما يسمى – تجاوزا – “تجار” سوق الهال، لأنهم في حقيقة الأمر سماسرة محترفون بوضع حسابات من نوع خاص يفبركونها ويبرمجونها حسب مصالحهم الخاصة، ووفقا لمزاجياتهم التي تحقق لهم عالي المردود، معتمدين على مبادئ متعارف عليها تم وضعها فيما بينهم فقط – على اعتبار أنهم الطرف الأقوى – دون إشراك الفلاح كطرف آخر، علما أنه هو الحلقة الأقوى عمليا كون انتفاء عمل الفلاح ينفي عملهم..!

 

تشديد

ولدى تواصلنا مع وزارة حماية المستهلك، بين مدير حماية المستهلك علي الخطيب أن الوزارة تقوم بتسيير دوريات يومية متخصصة إلى هذه الأسواق في أنحاء القطر كافة لمراقبة وضبط التجاوزات، وهي تشدد على مسألة البيع بالوزن الصافي، وتراقب أسعار الخضار والفواكه الموردة إلى السوق لمعرفة سعر كل صنف (الأول – الثاني – الثالث)، ليصار بالتالي إلى تحديد أسعار المفرق لهذه الأصناف من قبل لجنة مختصة في السوق ترفع بدورها الأسعار إلى مديرية التجارة الداخلية.

في حين أكدت مصادر في الوزارة أن العرف القانوني يسمح بأن يتقاضى تاجر الجملة عمولة 7% فقط، وما عدا ذلك فهو غير قانوني.

 

هيمنة..!

ولدى تقصينا حول سرّ هيمنة سوق الهال وتفرده بتحديد أسعار الخضار والفواكه كيفما يشاء رموزه وحيتانه، تبين لنا أن ما خفي كان أخطر، إذ أكد مصدر مطلع على حال السوق وخفاياه – فضل عدم ذكر اسمه – أن الحكومة حاولت منذ سنوات إنشاء مركز تسويقي بجانب سوق الهال في دمشق منافس له بهدف ضبط الأسعار بشكل مناسب وإلزام سوق الهال بسعر مقارب يلائم المواطن، لكن كبار التجار حالوا دون إنجاز هذا المشروع خشية ضياع المليارات التي يتقاضونها يوميا، وكذلك الأمر في طرطوس حيث أكد المصدر أن تجار سوق الهال هناك أغلقوا ذات مرة الطريق المؤدي إلى السوق بالشاحنات للحيلولة دون الوصول إلى المركز التسويقي المنافس، مشيرا إلى أن تجار سوق الهال أقوياء ماديا، وليس من الصعوبة عليهم القيام بهذه التصرفات.

كلام هذا المصدر ربما يثير للوهلة الأولى الكثير من الاستغراب والاستهجان، وأحيانا التشكيك بصحته، لكن حديث أحد المفاصل التنفيذية بدد بشكل كبير هذه الشكوك عندما قال: هناك ومنذ ما يزيد عن عقد من الزمن شركة جاهزة اسمها “فيحاء الشام” تم تجهيزها بالآلات المناسبة، واختصاص هذه الشركة هو فرز الفواكه والخضار وتوضيبها لتكون صالحة للتصدير، وبالوقت نفسه للاستهلاك المحلي، ولكنها إلى الآن لم تبدأ عملها، مشيراً إلى أنها شركة مساهمة خاصة تساهم فيها غرف التجارة والزراعة واتحاد الفلاحين، وهي الآن موجودة وآلاتها جاهزة وفيها مجلس إدارة، ولكنها غير قادرة على الإنتاج..! مؤكداً أن هذه الشركة من شأنها أن تضع حدا لـ “تمرد” بعض تجار سوق الهال في حال عملها، لكن هذا البعض لا يريد لها أن تبدأ بالعمل حتى لا يتوازن السوق ويتأثر بالتالي عمله.

 

مقتضبة

ولدى التقصي حول شركة “فيحاء الشام” رشحت معلومة مقتضبة أكدها مفصل تنفيذي في وزارة الاقتصاد والتجارة الخارجية مفادها أن رئيس مجلس الوزراء السابق كان قد أعطى الاتحاد العام للفلاحين مهلة زمنية قصيرة الأجل لدى لقائه أعضاء الاتحاد بتفعيل هذه الشركة، وإلا سيتم مصادرتها، وأشار رئيس الوزراء – وقتها – إلى أن تكلفة إنشاء هذه الشركة 100 مليون ليرة سورية، وفق سعر صرف 50 ليرة ..!

 

في المقلب الآخر

في المقابل، ورغم النظرة السائدة عن تجار سوق الهال التي تؤكد أنهم بعيدون كلياً عن الخسارة، كونهم يعرفون كيفية تحصيل الأرباح بطرق مشروعة وغير مشروعة، حسب بعض المراقبين، إلا أن التجار الذين التقينا بعضهم نفوا ذلك جملةً وتفصيلاً، معتبرين أنهم يدعمون الفلاح عبر تمويلهم له بلا فوائد على أمل أن يصرف بضاعته في محالهم، مؤكدين أن ذلك ليس شرطاً قطعياً على الفلاح، فبإمكانه تصريف البضاعة أينما كان، على أن يسدد ما اقترضه منهم، ولولا السوق لما استطاع المزارعون تصريف منتجاتهم.

بل وطالبوا تجار السوق أن يتم دعمهم في حال التصدير أسوة بنظرائهم في الدول المجاورة، حيث يدعم التاجر اللبناني بنسبة 75% من قيمة بضاعته المصدرة، ويصل دعم التاجر المصري إلى 2000 دولار عن كل حمولة، بينما التاجر السوري يدفع 1300 ليرة سورية على كل بيان تصدير، ناهيك عن خساراتهم الفادحة التي تصل إلى 15 ألف دولار عندما يتم ردّ حمولاتهم من الدول المستوردة لها، كما حصل معهم عندما رد عدد من شحنات البندورة المصدرة إلى إحدى الدول العربية منذ سنوات..!

 

سيطرة

ويجمع عدد من المتابعين على أن سوق الهال هو المسيطر على أسعار الخضار والفواكه، وأن تجاره هم من يتحكمون بالمزارع ويشترون بضاعته بالسعر الذي يريدون ليبيعونها أيضا كما يريدون، معتبرين أن أحد الحلول الكفيلة بضبط أسعار السوق يتمثل بتطبيق الفاتورة التي من خلالها يمكن معرفة نسبة الأرباح الحقيقية، لكننا إلى الآن غير قادرين على تطبيقها. وأشار المتابعون إلى غياب الحكومة عن حقيقة عن هذا الواقع، وأن كلا من المزارع والمستهلك يشتكي، وما من حل سوى إلزام التجار بتداول الفاتورة أو إنشاء مركز منافس لسوق الهال.

أمام هذا المشهد هناك من يطرح خطوات قانونية تُعنى بالأسواق لكن المشكلة بالتطبيق، فصدور قانون حماية المستهلك على – سبيل المثال – كان نظريا، ولم يطبق بشكل فعلي كما يجب، كما أن قانون المنافسة ومنع الاحتكار لم نر منعكساته على أرض الواقع، فالخطوات العملية لم تواكب الخطوات القانونية التي مشت بسرعة، كما أن من مصلحة بعض المتنفذين أن يبقى الوضع على ما هو عليه، لذلك يحاولون وضع العراقيل كيفما شاؤوا، فإذا لم يستطيعوا السيطرة على القانون يسيطرون على التنفيذ العملي.

 

آخر القول

يبدو أن حلقات السلسة التجارية تحتاج إلى إعادة نظر بالمجمل، بدءاً من الفلاح، مروراً بتاجر الجملة، ومن ثم تاجر المفرق، وانتهاءً بالمستهلك الذي يعتبر الأضعف بينها، فلكل منها همومه ومشاكله، لكن في المحصلة لكل منها نصيب من الربح، ولو كان بسيطاً باستثناء المستهلك الذي يدفع ثمن تجاوزات غيره من الحلقات المذكورة، ويبقى الدور الأكبر للجهات المعنية وخاصة وزارة التجارة الداخلية وحماية المستهلك، إضافة إلى هيئة المنافسة ومنع الاحتكار، المعنيتين بضبط إيقاع هذه الحلقات وتوازنها وتصحيح مسارها.