دراساتصحيفة البعث

نهج أمريكا المتغيّر

عناية ناصر

أعلنت إدارة بايدن عزمها على نقض العديد من سياسات عهد ترامب، مثل الانسحاب من اتفاقية باريس بشأن تغيّر المناخ، وحظره سفر الرعايا الأجانب من العديد من دول الشرق الأوسط إلى الولايات المتحدة. ومع ذلك، فإن قليلين هم الذين يتوقعون من بايدن أن يغيّر تقييم إدارة ترامب بأن المنافسة الإستراتيجية طويلة المدى مع الصين وروسيا هي “التحدي المركزي” لأمريكا. فكيف ستساهم الطريقة التي تتبعها إدارة بايدن في هذه المنافسة بشكل كبير في تحديد مستقبل النظام الدولي؟.

بينما قامت إدارة ترامب بالتركيز على “منافسة القوى العظمى” كمبدأ منظم للسياسة الخارجية للولايات المتحدة، كان التحوّل بعيداً عن مكافحة الإرهاب الدولي ونحو المنافسة بين القوى العظمى جارياً لبعض الوقت. بدأت العملية مع انتخاب باراك أوباما عام 2008، ويرجع ذلك جزئياً إلى الرفض الشعبي لما قام به سلفه جورج دبليو بوش من احتلال للعراق وأفغانستان. لقد سعى أوباما آنذاك إلى تقليص دور الولايات المتحدة في كلا البلدين ونجح في سحب القوات الأمريكية من العراق. وقد وفرت دعوة وزيرة خارجيته هيلاري كلينتون لـ”محور” آسيا مبرراً مفيداً لذلك. ومع ذلك، اشتكى العديد من الجمهوريين الذين أيّدوا هذا التغيير من أن أوباما لم يكن فاعلاً، إذ سرعان ما أطلق على ما قام به “إعادة التوازن”، ولم يتضمن ما فعله تغييرات ذات مغزى في نشر القوات أو الطائرات أو السفن الأمريكية. يبدو أن أوباما -الذي أراد التركيز على السياسة الداخلية- اعتبر هذه السياسة ذريعة للخروج من الشرق الأوسط وأكثر من ذلك بقليل. لكن بعد ما سُمّي “الربيع العربي” واجه المسؤولون الأمريكيون انتقادات داخلية قاسية بشأن الانسحاب من العراق، والذي اعتبره البعض بمثابة تمكين لصعود “داعش” في ذلك البلد. في نهاية المطاف، فشلت ردود فعل السياسة الأمريكية في كل من سورية وليبيا، ويرجع ذلك جزئياً إلى أن أوباما بدا ممزقاً بين الرغبة الشخصية في تجنّب الاشتباك والضغط السياسي لاتخاذ إجراء حاسم.

لم يكن الانتقال إلى سياسة موجّهة نحو المنافسة مع الصين وروسيا نتيجة للدروس المستفادة من السياسات الفاشلة والسياسات الداخلية للولايات المتحدة، بل كانت أيضاً إلى أن بكين أصبحت أكثر قوة اقتصادياً في أعقاب الأزمة المالية 2008-2009، ولذلك ادّعت مؤسسة السياسة الخارجية في واشنطن بأن بكين مصمّمة على طرد الولايات المتحدة من دول من شرق آسيا، كما زعم البعض في واشنطن أن الصين تجاهلت أوباما في قمة المناخ في كوبنهاغن عام 2009 وأنها عرقلت عمداً الاتفاق من خلال محاولتها إلقاء اللوم على واشنطن.

في غضون ذلك، تباطأت عملية “إعادة الضبط” بين الولايات المتحدة وروسيا وتوقفت وسط التوترات المحيطة بوضع إدوارد سنودن، المتعاقد السابق مع وكالة الأمن القومي الأمريكية في روسيا، والمخاوف الروسية من أن الولايات المتحدة سعت إلى إقامة قلاقل داخلية في البلاد بعد انتخابات مجلس الدوما. وهكذا ومع مجيء عام 2014، انهارت العلاقة بين الولايات المتحدة وروسيا بعد عودة شبه جزيرة القرم لحضن الأم روسيا والأحداث في شرق أوكرانيا.

بالنظر إلى المستقبل، سيتعيّن على إدارة بايدن اتخاذ قرارات أساسية حول جدوى متابعة المنافسة مع بكين وموسكو. القرار الأول والأكثر أهمية هو ما إذا كان يجب التنافس بالتساوي وفي الوقت نفسه مع كل منهما، أو بدلاً من ذلك، الاستمرار في المنافسة القوية مع أحدهما مع السعي إلى إيجاد حالة أقل توتراً من المنافسة مع الآخر. بدا أن الرئيس السابق دونالد ترامب وبعض مستشاريه يأملون في البداية أن تتمكّن الولايات المتحدة من تحسين علاقتها مع روسيا لتغيير الديناميكيات في المثلث الأمريكي الصيني الروسي. على الرغم من أن إدارة بايدن ستسعى إلى تمديد معاهدة ستارت الجديدة للحدّ من الأسلحة -التي سعى ترامب إلى جعلها مشروطة بمشاركة الصين- إلا أن القيادة الأمريكية الجديدة أشارت أيضاً إلى عدم اهتمامها بـ”إعادة ضبط” جديدة وتفضيلها لخيار إخضاع موسكو للمساءلة، بذريعة ما تزعمه واشنطن من أفعالها العدوانية والمتهورة.

يزعمُ البعض في واشنطن بأن الصين تشكّل تهديداً أكبر على المدى الطويل -لأنها أقرب إلى أن تكون نداً لأمريكا- لذلك هناك حجة لإعطاء الأولوية للتنافس مع بكين. ومع ذلك، يرى الكثيرون أيضاً أن الصين شريك أكثر أهمية وأكثر منطقية في القضايا العالمية مثل تغيّر المناخ، والتي حدّدها بايدن على أنها مصدر قلق كبير للولايات المتحدة. ربما الأهم من ذلك، على الرغم من الحرب التجارية التي شنّها دونالد ترامب، أن العلاقات الاقتصادية بين الولايات المتحدة والصين لا تزال من نواحٍ كثيرة العمود الفقري للاقتصاد العالمي. هذه حجة قوية للحذر، وربما أكثر من ذلك لأن فريق بايدن يركز على معالجة الوباء وإعادة الانتعاش الاقتصادي بعد COVID-19، كما يرى الكثيرون بأن أهم خطوة يمكن أن تتخذها الولايات المتحدة في التنافس مع الصين هي ترتيب منزلها الخاص.

وهكذا وبينما تقرّر كيفية المضي قدماً في التعامل مع خصميها من القوى العظمى، ستعمل إدارة بايدن في الوقت نفسه على إشراك حلفاء الولايات المتحدة في آسيا وأوروبا. من هذا المنظور، يبدو من المرجّح أن يبذل حلفاء الولايات المتحدة جهوداً أكبر للحفاظ على العلاقة بين الولايات المتحدة والصين، وعلاقاتهم مع بكين، أكثر مما سيبذلونه في الدفاع عن العلاقات الأمريكية الروسية أو علاقاتهم مع موسكو. وهناك عدة أسباب لذلك، وأبرزها أن الصين غالباً ما تكون الشريك التجاري الأول أو الثاني لحلفاء الولايات المتحدة في آسيا وأوروبا، بينما تلعب روسيا دوراً أصغر في التجارة وخاصة في الاستثمار، ولاسيما في آسيا.

أخيراً، في حين أن واشنطن تزعم بأن بكين لا تفي بالتزاماتها التجارية والملكية الفكرية، فإن النخب الأمريكية تشخصن العلاقات بين الولايات المتحدة وروسيا، وركزت غضب المؤسّسة السياسية والإعلامية الأمريكية على الرئيس فلاديمير بوتين بدلاً من “روسيا”. ونتيجة لذلك، يصعب على الكثيرين في مجتمع السياسة الخارجية الأمريكية تصور التحسّن في العلاقات الأمريكية الروسية.

وسواء اتخذت إدارة بايدن خياراً استراتيجياً واعياً أم لا، يبدو أن العلاقات الأمريكية مع الصين ستتحسّن إلى حدّ ما، حتى مع بقاء العلاقات مع روسيا متوترة في اللهجة والمحتوى. في الهندسة، من المستحيل تغيير زاويتين في المثلث دون تغيير الثالثة، لذلك يبقى أن نرى ما إذا كان هذا صحيحاً في الشؤون الدولية.