الصفحة الاخيرةصحيفة البعث

الشجرة السورية والإنسان السوري.. حكاية دائمة الخُضرة

د. نجلاء الخضراء

منذ فجر التاريخ نشأت العلاقة الوثيقة بين الإنسان والشجرة التي وجد عندها الظلَّ والمأكل وأخرجَ من أخشابها الدفء.. وعلَّقَ عليها سرير طفله ثم عاد واتخذ من غصنها عُكازاً حين تقدم به السن وحين استخدم المعادن في الآلات والصناعات الثقيلة ظلّت الأشجار تساعده عبر تنقيتها للهواء من انبعاثات ثاني أوكسيد الكربون وليس هناك أولى من الإنسان السوري بالحديث عن العلاقة بالأشجار لكون سورية الطبيعية مُكتنزة بأصنافٍ كثيرةٍ منها وخاصة بتلك التي تعتبر الأكثر فائدة وعطاءً للإنسان.. الأشجار هي مصدرُ الزيت والصمغ وبعض أنواع العِلاجات الطبيعية ومنها صُنعت البيوت الخشبية التي كانت منتشرة إلى جانب بيوت “اللِبن” ومنها صنع كثيرٌ من الآلات الموسيقية القديمة حتى الفأس الذي نقطع به الأشجار قبضته قطعةٌ منها، والطعام الحلو والنار التي تُعدَّ عليها الحلويات من مُربيات وغيرها، حتى بعض البهار كالقرفة مثلاً ومنها صُعت القوارب والسفن عبر التاريخ لتصدير أطاييبها إلى كثيرٍ من دول العالم، ولطالما كان السوري رائداً في صناعة كل ما يمكن أن تجود به الأشجار وبأصنافٍ كثيرة متنوعة، هذه العلاقة التاريخية غزيرة العطاء جعلت السوريين القُدامى يقدسون الأشجار خاصةً أخشابها، فقد كان السوري يذهب إلى الأشجار الكبيرة يقرع عليها قرعتين أو ثلاثة ويقول عندها أمنياته وآماله وكان الكهنة يرتدون الخشب ويطرقون به على الصخور لإبعاد الأرواح الشريرة ومن هنا درجت العادة السورية بإلباس “العروس” قُبقاباً ومن جعل القباقيب هي ما يتم إلباسه لرواد مايُعرف بـ”حمام السوق” كون هناك اعتقادٌ سائد فيما مضى بأن سكب الماء الساخن على الأرض وفي المصارف الصحية قد يؤذي كائنات العالم السفلي.. واستمرَّ الاعتقاد بأن الطرق على الأخشاب جالبٌ للحظ مُبعدٌ للحسد إلى فترةٍ قريبة، مما جعل الأشجار تعطي شعوراً بالأمان الروحي للناس أيضاً.

ومع انتشار الإسلام في منطقة بلاد الشام تراجعت المُعتقدات التي تُقدِّسُ الأشجار وأخشابها لتزدهر، في مقابل ذلك، الفنون التي العمرانية والتأثيثية التي تعتبر الأخشاب مادتها الرئيسة وإذا أردنا الحديث عن أكثر الحِرف السورية أصالةً وتميزاً وانتشاراً حول العالم حيث هي الهدايا والتذكارات المفضلة التي يقتنيها سُياح المشارق والمغارب عند زيارتهم سورية، فلا بدَّ من الحديث عن حرفة الموزاييك حيث أن طبيعة بلاد الشام ذات المناخ الذي يُتيح لكثير من أصناف الأشجار النمو والانتشار جعلت السوريين مُعتادين على التعامل مع أصناف مختلفة من الأخشاب ذات الخصائص والألوان المتنوعة فتم تنزيل الخشب على الخشب وفق رؤية جمالية لونية فريدة استنبطها السوري من بيئته الطبيعية الثرية لونياً وجمالياً مما يجعل فن الموزاييك ذروة علاقة تاريخية بين السوري وأشجار أرضه، ثم تطورت الحرفة وأضيفت الأصداف في نهاية فترة الاحتلال العثماني.