مجلة البعث الأسبوعية

القيم الجمالية في سرد الحكاية..

“البعث الأسبوعية” ــ رامز حاج حسين

فتيل الدهشة

أول ما يصغي الطفل لحديث أمه عن حكايته الأولى المتعلقة بأول تجربة خاطئة له في الحياة ومحاولة تصحيحها، أو تجربة نجاح وتفوق ومحاولة دعمها، يكون عقله ووجدانه قد بدأ يتحفز منذ تلك اللحظات لتقبل المفاهيم الجمالية والأخلاقية والبنيوية النفسية عبر الحكاية.

إن كان طرح الحكاية عبر الحوار والحديث المسموع، أو كان عبر أوراق القصة وصفحات الكتب والمجلات، فإن الطفل المستهدف يكون منجذباً بكليته ليشرب معاني القصة وأبعادها. في تلكم اللحظة، يكون الطفل كالعجينة الطيعة الطرية، قابلاً للتشكيل، وقابلاً للعجن لصنع ما نحب منه؛ فلنحذر ولنحذر بشدة من أي عملية تشويه أو قسوة أو ضربة معنوية لوجدان وروح هذه العجينة!! فها هنا تتشكل الضمائر، وتتشكل القيم الأخلاقية والمزايا الخاصة بالطفل، وينتهج في حياته درب بطل الحكاية – كما نريد له أن يكون – شجاعاً مقداماً يخترق الحجب بجسارة أم جباناً خوافاً يهاب الاقتحام ويخشى من كل ما يحيط به؛ أنريده فارساً نبيلاً يحب الخير للآخر، أم أنانياً خسيساً يتبنى نظريته النرجسية تجاه نفسه، ولو على حساب زملائه وأقرانه ومحيطه. لا نستهن، يا أصدقاء، بقدرة الحكاية البكر على بلورة الوعي، ورسم ملامح شخصية أطفالنا منذ تلك السنوات المبكرة من أعمارهم، فكم من شاب ويافع في محيطنا بحثنا في أسباب جنوحه وعنفه وتسلطه وجرائم يرتكبها، لنجد أنه تربى على قصص ومفردات وأعمال فنية أو درامية كلها عنف ودم واستسهال إراقة الدم وزهق الأرواح على أنها بطولة وتفرد!!

تحدثنا كثيراً عن الأنموذج الأميركي الذي طغى وطفا على السطح الثقافي العالمي في العقود الثلاثة الأخيرة، حيث سيطرت موجة تأليه البطل الأميركي الخارق على ثقافة جيل الشباب في كل أنحاء العالم، وتفنن صناع السينما والقصص المصورة والمسلسلات في الإبهار البصري والموسيقي والحواري للعنف، فزينوا القتل، وزينوا لحظات الذروة في الانتقام والتوغل في طعن الخصم بفنون من العنف لم يكن لها مثيل.. هذا يفضي إلى تربية أطفالنا باللاوعي، وتخزين صور العنف في خلدهم لاستثمارها فيما بعد في تجنيدهم لغايات ومؤامرات خفية تفضي لتصنيع إرهاب متقن الحبكة، وتغذيته بهؤلاء الفتية، للأسف الشديد!!

 

الجنس المريض

تربينا بكل قصصنا على أن الأميرة والبطلة المستضعفة، في قصصنا الخيالية القديمة، دائماً ما تكون ربة حسن وجمال وتربية وأخلاق رفيعة، يحاول الشر أن يخطفها من طهرها وبراءتها ومكانتها المجتمعية، لينتفض بطلنا الفارس النبيل الخلوق وينقذها من براثنه؛ وكم كانت تزدان تفاصيل الحبكة المروية بأخلاق أهلنا، فيعف، ويستحي، ويخجل، ويتمادى في إبراز الشهامة والنبل وأخلاق الفرسان.. فارس يليق به أن يكون زوجاً لا سافحاً للعِرض، فأجمل النهايات تلك التي ننهيها بـ “تزوجا وخلفا صبياناً وبنات”؛ فليس من شيم القصص السورية الموغلة في الريف، وتفاصيل وحميمية أهلنا، أن يكون فيها لحظة – ولو عابرة – من مجون، أو عناق، أو قُبل خارج السياق الأخلاقي للدراما الخاصة بها، بينما يذهلنا الآن الكم المفرط من المشاهد والحوارات والبنى الدرامية التي تستخف بتلك القيم، وتضرب بها عرض الحائط، بحجة الإتيان بغير المألوف وكسر الأنماط التقليدية.. وأي أنماط تقليدية تنكسر هنا!! فهؤلاء الذين ينتهجون كسر المألوف، ومغايرة الذائقة الجمعية والفطرة السليمة السورية، لا يدركون أنهم فقط يغردون خارج سرب الأخلاق الحميدة الجامعة التي اتفقت عليها كل الجينات السورية.

يسقط كل عمل قصصي أو تلفزيوني أو سينمائي في فخ الإباحية، بجملة عابرة، أو صورة لا تنتمي لشرف الحكاية.. والمبرر الأخلاقي موجود لدى أطفالنا بالفطرة، ومحاولات التشويه ستبوء بالفشل، ومعها كل الحبكات الخفية التي تتسلل من الثقافة الغريبة الوافدة.

الغول والسلعوة والعفريتة والضبعة أرحم ألف مرة من فكرة جنسية غير مضبوطة بالأخلاق، تُزرع في تفكير أطفالنا، وتنتج منهم في المستقبل أناساً تغلبهم الشهوة المنحرفة على تحكيم العقل والعرف والتربية السوية؛ والموضوع يحتاج منا لمحورين في العمل: الأول مراقبة ما يعرض لأطفالنا من أعمال وقصص، وتصويب بوصلتها ومراقبة حثيثة من الأهل والمربين لما يتابعه الأطفال عبر وسائل التواصل والميديا المجنونة المفتوحة على كل احتمال، والثاني أن نستدرك – كصناع لثقافة أطفالنا السورية – أن يكون لنا رد فعل مغاير، وترسيخ لـ “المضادات الثقافية الحيوية” التي تحصن أطفالنا من كل زيف ووافد غريب، في المنحى اللفظي أو السمعي أو المقروء، والرغبة في استكشاف الآخر، أكان من الجنس نفسه أو من الجنس المقابل لدى الأطفال، وفق هذه المنظومة الخلقية وعدم الشذوذ عنها؛ ولنعزز في خلده أيقونات الحب والعمل والتمتع بالحكمة والمرح النبيل واستجلاب السعادة والرحمة، ونبعده عن أيقونات الجنس المريض والسخرية بالرموز الاجتماعية والدينية، والعنف والانتقام، وعدم النظافة، والتدخين وشرب المخدرات.

 

الوعي المبكر

تورد هنا أو هناك، بين الفينة والأخرى، وعلى استحياء أو لمجرد التنبيه، عبارات عن التنمر الجنسي والتحرش والعيب والخلق السيئ.. لا ضير في التنويه، ولمس المشكلة ومقاربتها، ولكن الرأي أن نبدأ برفع مستوى الوعي والتوعية في هذا المضمار، وليكن المهتمون بالشأن الطفلي على انعقاد دائم ضمن ورشات عمل حثيثة مع مختصي تربية وعلم نفس يقدمون الخطط والمناهج التوعوية المنطلقة من خصوصيتنا السورية، ومن تربية جداتنا والمؤسسين الأوائل لحضارة وثقافة وأعراف وأخلاق هذه الأرض؛ وسيكون لنا في كل بيت فارس نبيل كما نشتهي، ينهض في يوم ما بمهمة إنقاذ أميرته الكبرى (سورية)، ومعه كل من صنعناهم اليوم لمستقبلها الجميل.