دراساتصحيفة البعث

الغرب ينكر تاريخ القرم

سمر سامي السمارة

لعلّ من أكثر الطرق التي تعتمدها وسائل الإعلام الغربية إزعاجاً، هي تجاهلها المتعمّد للتاريخ وتعاملها مع كافة الأنظمة الحديثة كما لو كانت مفرغة من السياق التاريخي. هذا الحال أصبح أكثر وضوحاً في تعاطيها مع الوضع الحالي في شبه جزيرة القرم، إذ يبدو أن سياسيي ومراسلي وسائل الإعلام الغربية أصبحوا فاقدين تماماً للسياق التاريخي عند مناقشة الخلاف الحالي بين روسيا وأوكرانيا حول وضع شبه الجزيرة.

الأسوأ من ذلك، أنهم يزيفون الوضع في شبه جزيرة القرم، مؤكدين باستمرار على “ضمّ” روسيا للمنطقة، كما أن وسائل الإعلام الرئيسية، التي تبدو متحمّسة بشكل مذهل لرؤية اندلاع حرب بين روسيا وأوكرانيا، تحرّف حقائق التأييد الروسي للمنطقتين الانفصاليتين الناطقين باللغة الروسية دونيتسك ولوغانسك.

نشأ كافة الطلاب في العالم الناطق باللغة الإنكليزية على التاريخ البريطاني في مختلف الحروب الخارجية، ومنها حرب القرم التي دارت رحاها بين روسيا وإنكلترا إضافة إلى دول أخرى بين عامي 1853 و1856، فكانت أسطورة الممرضة البريطانية الملهمة “فلورنس نايتنجيل” معروفة تماماً لكل طفل في مدارس اللغة الإنكليزية. في ذلك الوقت، كانت القرم جزءاً من الإمبراطورية الروسية منذ عام 1774 بعد أن تمكّنت الإمبراطورة الروسية كاترين العظمى من سحق الإمبراطورية العثمانية. وفي العام 1921 أصبحت القرم جمهورية اشتراكية مستقلة، تمّ حلّها عام 1945 عندما أصبحت شبه جزيرة القرم مقاطعة في اتحاد الجمهوريات السوفييتية.

وفي عام 1954، نقل الزعيم السوفييتي نيكيتا خروتشوف، وهو أوكراني، تبعية القرم إلى أوكرانيا، حيث بقيت حتى عام 2014، وعلى الرغم من أنها كانت جمهورية تتمتّع بالحكم الذاتي منذ عام 1991 داخل أوكرانيا، تعمّد الإعلام الغربي تجاهل هذه الحقيقة الأخيرة.

في عام 2014، قامت “الانتفاضة السياسية” في أوكرانيا والتي أدّت إلى فرار الرئيس يانوكوفيتش في شباط 2014 واستبداله بمجلس عسكري، وكان الأمريكيون متورطين بشكل كبير في ذلك الانقلاب الذي حدث في ذلك الوقت.

عقب حدوث الخلافات بين حكومة القرم والقيادة السياسية في كييف، أعلنت شبه جزيرة القرم في 17 آذار 2014 استقلالها عن أوكرانيا، ثم جرى استفتاء للانضمام إلى روسيا، حيث أظهرت النتائج دعماً شعبياً ساحقاً، وفي 3 من شهر نيسان 2014 أصبحت شبه الجزيرة مرة أخرى جزءاً من روسيا، وفي حزيران تمّ اعتماد الروبل الروسي كعملة لها.

يتضحُ من هذه اللمحة التاريخية القصيرة، أن القرم كانت جزءاً من روسيا منذ القرن الثامن عشر، وحتى خلال الفترة من 1954 إلى 2014 عندما كانت جزءاً من أوكرانيا، احتفظت باستقلالها بشكل كبير، لذا فالإشارة إلى التحوّل من منطقة في أوكرانيا إلى الانضمام مرة أخرى إلى روسيا على أنها “ضمّ” من قبل روسيا، هو تشويه كامل للحقائق التاريخية.

إضافة إلى ذلك، يحقّ بموجب ميثاق الأمم المتحدة للمناطق أن تقرّر بحرية ما فيما إذا كانت ترغب في البقاء جزءاً من البلد الملحقة إليه أم الانفصال عنه، وثمة سابقة تاريخية في حالة كوسوفو التي أعلنت في عام 2008 استقلالها عن صربيا، حيث أحالت الجمعية العامة للأمم المتحدة إعلان استقلالها عن صربيا إلى محكمة العدل الدولية، وفي تموز 2010 أعلنت المحكمة رأيها، موضحة أن “اعتماد إعلان الاستقلال الصادر في 17 شباط 2008 لم ينتهك القانون الدولي العام، لأن القانون الدولي لا يتضمن أي حظر على إعلانات الاستقلال”.

وهنا لابد من الإشارة إلى أنه من الصعب رؤية أي فرق بين الوضع في كوسوفو والوضع في القرم، مع أن القرم تتمتّع بميزة إضافية تتمثل في تاريخها الطويل كجزء من روسيا، والتي صّوت سكانها بأغلبية ساحقة للعودة إليها. لذلك فإن الاختلاف في تناول الدول الغربية للحالتين، ليس إلا مثالاً كلاسيكياً على نفاقها، فالعداء تجاه روسيا والإشارات الدائمة لـ”ضمّ” روسيا لشبه جزيرة القرم يظهر بوضوح نفاق الغرب، وعلى الرغم من الموقف القانوني، ورغبات شعب القرم بوضوح في أن يصبح مرة أخرى جزءاً من روسيا، يواصل رئيس أوكرانيا توجيه تهديدات في إعادة ضمّ شبه جزيرة القرم قسرياً إلى أوكرانيا.

إن أي عمل عسكري ستقوم به كييف لتنفيذ رغبتها سيؤدي حتماً إلى خسارة عسكرية ساحقة لأوكرانيا، فثمة أشياء أكثر خطورة من شعور أوكرانيا بفقدان جزء من أراضيها، إذ أن القرم قاعدة بحرية روسية مهمّة، كما كانت لسنوات. ولكن نادراً ما تذكر روايات وسائل الإعلام الغربية أن الأمريكيين يطمحون للاستيلاء على المنشآت البحرية من روسيا في حال عودة شبه جزيرة القرم إلى أوكرانيا. كما أن رغبة الولايات المتحدة في إخلاء أحد الأصول العسكرية الروسية الرئيسية ومنح نفسها هذه الأصول هي عامل مهمّ في النزاع المستمر.

في الواقع، من الصعب رؤية حلّ سلمي لهذه المشكلة، ومن الواضح أن الحكومة الأوكرانية غير مهتمة بتسوية النزاع بطريقة ودية، إذ تتجاهل بنود اتفاقية مينسك التي تمّ توقيعها في شباط 2015 -توسط فيها رئيسا فرنسا وألمانيا ووقعتها أوكرانيا وممثلو الجمهوريتين الانفصاليتين وروسيا- غير مكترثة باتباع شروط الاتفاقية من خلال مواصلتها العمليات العسكرية ضد المنطقتين الانفصاليتين.

ويبدو أن الأوكرانيين يعتمدون على دعم الولايات المتحدة لهم في مواجهة روسيا بشأن شبه جزيرة القرم -على الرغم من أن عمق هذا الدعم يظل سؤالاً مفتوحاً- لذا أصدر وزير الخارجية الروسي لافروف مؤخراً تحذيراً صريحاً من أن أي عمل أوكراني غير مناسب سيقابل بردّ حاسم.