مجلة البعث الأسبوعية

بروباغندا هوليودية خبيثة تلعب على وتر التحريض والشوفينية مسلسل تلفزيوني جديد برعاية الاستخبارات التركية يضيف العرب إلى قائمة “أعداء تركيا”

“البعث الأسبوعية” ــ علي اليوسف

لأول مرة في التاريخ التركي، تتم رعاية ودعم مسلسل تلفزيوني رسمياً من قبل جهاز “الاستخبارات العسكرية التركية”، ولأول مرة يتم وضع العربي في الجانب الشرير من حبكة المسلسل، ما يشكل انقلاباً من قبل الدولة التركية على حلفاء الأمس من العرب، وخاصة الإخوان، الذي دعموا ووقفوا إلى جانب العثمانيين الجدد، وأردوغان تحديداً، لتحقيق طموحاتهم الشخصية الانقلابية.

بدأت القصة عندما أُعلن أن مسلسلاً يحمل عنوان “تشكيلات” سيبث على قناة “TRT1″ الحكومية، و”تشكيلات” تعني باللغة العربية “المنظمة”، أو “الجهاز”، والمقصود هنا جهاز الاستخبارات العسكرية التركية.

والمسلسل برمته نوع من الاستعراض الهوليودي لـ “التجربة غير العادية لـلمخابرات العسكرية التركية”، كما يروج المقطع الدعائي الأول الذي تم بثه على الشاشة، ولذلك لم يكن مفاجئاً أن نرى عملاء من هذا الجهاز يخطفون بشكل همجي مدنياً من الشارع، في وضح النهار، في واحدة من الفانات المغلقة السوداء التي أصبحت رمزاً للاختفاء القسري في تركيا.

و”تشكيلات” هو أول عمل درامي يعرض أحداثاً “من سجلات المخابرات التركية”، وتدور أحداثه حول فريق سري مكون من سبعة أشخاص يتظاهرون بأنهم قتلوا في حادث تحطم طائرة فوق البحر الأسود من أجل تسهيل عملياتهم السرّية ضد “العرب الذين لا يريدون عودة إحياء الإمبراطورية التركية والمستعدين لفعل أي شيء للحيلولة دون ذلك”، وقد جرى عرض “مشاهد مؤثرة” من وداع أحباء أولئك الغرقى المزعومين، فالأب يودع أبناءه والشاب ينفصل عن خطيبته، والأم تترك طفلتها من أجل حماية الوطن، وفق سيناريو المسلسل.

ويرفع عملاء الجهاز شعار “الدولة تقول لك مت، فمت!!”، الأمر الذي أثار العديد من النقاشات على وسائل التواصل الاجتماعي حول مفهوم “الدولة من أجل الشعب، أو الشعب من أجل الدولة”، وهو الشعار الذي لا يبتعد عن أهداف المنتجين الذين يدركون جيداً أن الإسلاميين والقوميين الأتراك يفضلون الفهم التقليدي للدولة، أي الدولة الأبدية؛ ولذلك وظفوا ما يفترض أن الجمهور التركي يعرفه عن “شخصيات شريرة” تم تقديمها على أنها تبغض تركيا لأسباب تاريخية أو دينية.

وفادي زايد في المسلسل هو اسم أحد أعداء تركيا. ويبدو هذا الاسم عادياً ومألوفاً، لكنه في الواقع يحمل رسالة مموهة ودبلوماسية، لا سيما وأنه مزيج من إسمي وزير خارجية الإمارات العربية المتحدة عبد الله بن زايد، والقيادي السابق في حركة فتح، محمد دحلان، الملقب “أبو فادي”. وهذه الرمزية لم تأت من فراغ، بل نتيجة تدهور العلاقات بين تركيا والإمارات خلال أزمة الخليج عندما قطعت السعودية والإمارات ومصر والبحرين، ثم الأردن وليبيا، العلاقات الدبلوماسية مع قطر في العام 2017، بسبب دعم الدوحة لتنظيم “داعش” في العراق وسورية، علاوة على أن رأس النظام التركي رجب طيب أردوغان هاجم بن زايد بشكل غير مباشر، في العام نفسه، من خلال تغريدة استفزازية، قال له فيها: “أنت شخص مثير للشفقة يفتري علينا” (..) “أين كان أسلافك عندما دافع فخر الدين باشا عن المدينة المنورة.. من الواضح أن هدف عداء بعض المسؤولين العرب لتركيا هو التستر على افتقارهم إلى القدرة والتحمل.. إنها خيانة”. قبل أن يختتم: “من الواضح أنك لا تعرف أي شيء عن أسلافنا.. أسلاف أردوغان”.

وبحسب تسلسل الحلقات، عرف الجمهور أن فادي زايد أسرته “إسرائيل” في سن مبكرة أثناء إقامته في فلسطين وتعرض لتعذيب شديد. وقرر تغيير موقفه بعد أن اكتشف أن أصدقاءه قد “باعوه” – كما يقول المسلسل – وهو العضو الجديد في جمعية قوية وسرية، ويسقط كاتب السيناريو الكثير من التلميحات بأن هذه المنظمة، الشبيهة بالماسونية، تديرها عائلة روكفلر، وقد أصبح فادي رئيس “القسم” المسؤول عن تركيا بعد أن قطع رأس سلفه أمام أعين أعضاء المنظمة الآخرين، لأنه لم ينجح في وقف نفوذ تركيا المتنامي في المنطقة.

 

الترويج للصناعات العسكرية

استخدم المسلسل، الذي تم تصويره في العاصمة التركية أنقرة، تكنولوجيا الطائرات بدون طيار، ومهام التجسس، وتغيير الهوية، وإظهار كواليس منظمة الاستخبارات، وهي الأساليب التي تستخدمها حكومة العدالة والتنمية في غزواتها الخارجية؛ فحتى الحلقة السادسة، كان هدف فادي الاستراتيجي هو جعل الطائرات التركية بدون طيار غير فعالة بكل الوسائل الممكنة. ويتم ذكر الطائرات التركية بدون طيار كثيراً وكثيراً. ما يعني أن “تشكيلات” يريد لجمهوره أن يعتقد أن الطائرات التركية بدون طيار جعلت تركيا متفوقة عسكرياً في المنطقة؛ كما أن هناك رسالة تسويقية أخرى مدمجة في السيناريو: “لا يمكنك الهروب من الطائرة التركية بدون طيار”. وليس سراً أن الطاغية التركي وأفراد أسرته وشركاءه يستفيدون بشكل كبير من صناعة السلاح والمبيعات العسكرية. وأن سلجوق بيرقدار، صهر أردوغان، يقوم بتصنيع الطائرات التركية بدون طيار المسلحة وغير المسلحة، والتي تم استخدامها في سورية وليبيا والعراق وأذربيجان في العام الماضي.

 

عدو عدوي ليس صديقي!!؟

وفي الحلقات اللاحقة، يتم التركيز على أن فادي، الذي يعيش في ألمانيا، يدير جهود الضغط ضد تركيا، ويرشو السياسيين والصحفيين الأوروبيين ويتعاون مع العنصريين والنازيين لاستفزاز “المواطنين الأتراك” في أوروبا. وبعد مشاهدة بعض الحلقات، يتضح أن كاتب السيناريو يعرض على المشاهدين بمهارة أن أعضاء “داعش” الذين بقوا في تركيا لبعض الوقت وارتكبوا أعمالاً إرهابية في أوروبا تتم إدارتهم من قبل قوة خارجية، وأن الدعاية التي تنتقد تركيا وأردوغان ليست بريئة، وهي تخدم غرضاً محدداً ليس جيداً لتركيا.

 

إذكاء التعصب القومي

وقد لاقى المسلسل ترحيباً من قبل الجمهور المستهدف، وذلك أحد المؤشرات المهمة التي تُظهر أن الأتراك يحبون الإنتاج التلفزيوني، لأنهم يتعاملون معه على أنه عمل واقعي، والدليل عل ذلك أنه في الحلقات الأخيرة، حصل اثنان من عناصر “داعش” على جوازات سفر تركية مزورة، حيث لوحظ أن مكان الولادة هو كيريكالي، وهي مدينة في وسط تركيا، احتج الكثير من أهاليها على الشركة المنتجة “TIMS & B”، وطالبوها بالاعتذار عما سببته لهم من إحراج.

ويتناسب مسلسل “تشكيلات” تماماً مع قالب الدعاية السينمائية الخبيثة التي تطلقها هوليوود بهدف إظهار قوة الدولة التركية، وبثّ شعور الفخر لدى المواطنين الأتراك. ومع ذلك، فإن العقبة الأكثر أهمية هي أن المخابرات التركية يتم تقديمها على أنها الفاعل الأكثر حيوية، والأقوى والفاعل الحقيقي الوحيد الذي يحمي مصالح تركيا. إنه، بطريقة ما، “عقل” الدولة التركية. لكن من المرجح أن يكون أردوغان، الذي لا يحب تقاسم السلطة، غير مرتاح لارتفاع أسهم رئيس جهاز الاستخبارات العسكرية التركية، حقان فيدان.

فهو، أي أردوغان، مثل ديمقراطيي هوليوود، لديه روح شمولية، وهو ما جعل تركيا اليوم في حالة استقطاب عميق على أسس عرقية، وما نشهده في تركيا في عهد أردوغان اليوم هو خطوة كبيرة صوب الفاشية.

يوصف أردوغان بأنه “رجل تركيا المريض”، خاصةً إن تقلبات مواقفه ورهاناته جعلته رجلاً غير طبيعي، رجل مولع بالاستعراضات، والانقلابات الدرامية وتغيير الرهانات؛ ومن يرون في الرجل “خليفة الإسلام المنتظر” عليهم أن يطلبوا منه توضيحاً حول تحالفه العضوي مع حركة شوفينية ترى في العرب كائنات أقل شأناً من ناحية العرق؛ ومن يرى فيه أملاً للأمة وقصة نجاح عليه أن يدقق جيداً في تصريحاته الأخيرة بعد لعبة البوارج البحرية في شرق المتوسط، وهو يرسل إشارات إلى أوروبا من جديد ليؤكد أن تركيا جزء من أوروبا، ويهاتف الملك السعودي في خطوة تودد موجهة لواشنطن وقد تغير فيها ساكن البيت الأبيض والساكن القادم الجديد ألمح إلى سياسة أكثر حزماً مع أنقرة.

ويكفي تصفح بعض أوراق تاريخ السلطنة العثمانية، لنعرف أن كل المأساة التي يعاني منها العرب والمسلمون اليوم تعود جذورها إلى تلك الحقبة المظلمة من التاريخ العربي والإسلامي؛ ولكن بعد مرور كل هذه الفترة الطويلة على سقوط الدول العثمانية، نسمع هذه الأيام خطاباً قادماً من صوب تركيا، يشبه إلى حد كبير الخطاب العثماني القديم الذي اعتقدنا أنه دفن تحت ركام الدولة التي انهارت تحت وقع فسادها وخطابها الشوفيني الطائفي، وهذا الصوت ما هو إلا صوت وريث الدولة العثمانية، أردوغان، الذي لم يعد بإمكانه كما في السابق أن يخفي نزعته العثمانية؛ وفي الوقت الذي يعيش أردوغان وهم بعث أمجاد الدولة العثمانية، تؤكد كل الوقائع على الأرض أن الخطر أصبح محدقاً بتركيا نفسها.