مجلة البعث الأسبوعية

لماذا تلك الكراهية الأمريكية الشديدة تجاه بوتين؟ حتى خلال الحرب الباردة.. لم يستخدم الأمريكيون لغة كالتي استخدمها بايدن في وصفه للرئيس الروسي!!

“البعث الأسبوعية” ــ هيفاء علي

بالتأكيد ليس لأنه موظف سابق في الـ “كي بي جي”، فقد كان يوري أندروبوف رئيسا سابقا لـ “كي جي بي”، وقد فعل الكثير لتقويته وتقوية موظفيه وعملياته؛ ومع ذلك، لم يصفه أحد بالقاتل؛ كما ليس بسبب شبه جزيرة القرم أو دونباس، على الأقل ليس بشكل مباشر، لأنه عندما غزا الاتحاد السوفياتي تشيكوسلوفاكيا، وقبل ذلك، المجر، لم يطلق السياسيون الغربيون اسم “القتلة” على خروتشوف أو بريجنيف. وعليه، يجمع المحللون والمراقبون على فكرة أن هناك نوعا فريدا تماما من “الشيطنة” الصريحة التي تم إلصاقها به، وهي فريدة تماما من حيث حدتها ونطاقها؛ وبحسب هؤلاء، هناك أسباب لمثل هذا الحقد الأعمى على روسيا بوتين.. وتلك قائمة أخرى بالأسباب المحتملة:

أولا، لا يمكن إنكار أنه في حين أن يلتسين كاد أن يدمر روسيا كدولة، فإن بوتين “أعاد إحياء” روسيا بمفرده في وقت قصير وبشكل مفاجئ، وحولها من بلد في حالة يرثى لها وسكان لا يريدون شيئا أكثر من أن يصبحوا ألمانيا التالية، أو بولندا التالية؛ وقد جعل بوتين روسيا أقوى قوة عسكرية على هذا الكوكب، وأعاد تشكيل تصورات الروس عن أنفسهم ولروسيا. وبالإضافة إلى ذلك، استخدم بوتين الإجراءات القسرية التي اتخذها الغرب – كالعقوبات والمقاطعة والتهديدات – لزيادة تعزيز وترسيخ مكانة روسيا اقتصاديا وعسكريا من خلال وسائل متعددة، مثل استبدال الوجهات التي يتم الاستيراد منها، وعقد المؤتمرات والتكتلات الدولية، وإجراء المناورات العسكرية، والأهم من ذلك فصل بوتين روسيا عن عدد كبير من المؤسسات أو الآليات التي تسيطر عليها الولايات المتحدة، وهي الخطوة التي خدمت روسيا أيضا بشكل كبير.

يتحدث السياسيون الأمريكيون عن دولة ذات “اقتصاد ممزق” و”محطة وقود تتنكر في شكل دولة”. لكن في العالم الحقيقي، كان أداء الاقتصاد الروسي أفضل بكثير من الاقتصادات الغربية، أما بالنسبة لـ “حرب الطاقة” بين الولايات المتحدة والسعودية وروسيا، فقد انتهت بهزيمة كارثية للولايات المتحدة وانتصار كبير لروسيا، ثم جاءت أزمة كورونا والكارثة الملحمية لسوء إدارة الغرب لهذه الأزمة؛ ذلك أن التناقض بين الطريقة التي تعاملت بها روسيا والصين مع الأزمة وبين ما فعله الغرب لا يمكن إلا أن يكشف عن ضعفه وفشله الكبيرين، بالإضافة إلى أن روسيا هي أول دولة في العالم تنتج لقاحا مضادا للوباء، وفي الوقت الحالي أنتجت ما لا يقل عن ثلاثة لقاحات، وهي على وشك تسويق لقاح آخر، وهذه المرة لحماية الحيوانات من الفيروس.

والأسوأ من كل ذلك، أن الغرب جعل العلاقات، مع الدولة التي ابتكرت أفضل لقاح على هذا الكوكب، بمثابة كارثة، ولا يوجد شيء يمكن للغرب فعله لتخفيف هذه الصدمة. وعلى العكس، فالأمور تزداد سوءا، كما تظهر جميع عمليات الإغلاق القادمة في أوروبا، لكن هذا ليس السبب الحقيقي أيضا، كما يتضح من حقيقة أن الغرب يكن الكراهية للرئيس بوتين بالفعل قبل فترة طويلة من ظهور فيروس كورونا.

 

الانتصار “المسروق” في الحرب الباردة

حقيقة الأمر، لدى الغرب قائمة طويلة جدا من الأسباب التي تجعله يكره بوتين وكل ما هو روسي، ولكن هناك سببا واحدا يفوقها جميعا – برأي مراقبين – فقد صدّق القادة الأمريكيون كذبة أنهم هزموا الاتحاد السوفيتي خلال الحرب الباردة، وأن انتصارهم – على الأقل ظاهريا – كان كاملا بانهيار القوة العظمى القديمة، وصعود دمية مدمنة على الكحول ومذهولة إلى السلطة، لكن الواقع أكثر تعقيدا.

جاء بوتين، الذي لم يكن معروفا جيدا في الغرب أو في روسيا، إلى السلطة، ليعمل على الفور على إنقاذ روسيا وتفادي سقوطها في الهاوية. تعامل أولا مع التهديدين الأكثر إلحاحا: الأوليغارشية والتمرد الوهابي في القوقاز.. دهش الكثير من الروس من سرعة وتصميم أفعاله؛ ونتيجة لذلك، وجد بوتين نفسه فجأة أحد أكثر القادة شعبية في تاريخ روسيا. للوهلة الأولى، تلقى الغرب صدمة قوية من هذا النجاح الكبير الذي حققه بوتين لبلاده، ومن ثم أصيب بنوبة من “الفوبيا الروسية” التي لم تُر من قبل حتى خلال نظام النازية الألماني إبان الحرب العالمية الثانية.

لفهم سبب هذا الحقد الغربي الأعمى، لابد من التنويه إلى أن قادة الغرب جميعا اعتقدوا حقا أنه، هذه المرة، وبعد ألف عام من الإخفاقات والهزائم المحرجة، استطاع الغرب “إلحاق الهزيمة” بروسيا وتحويلها إلى أرض بدون زعيم، بدون ثقافة، بدون روحانية، وبطبيعة الحال بدون تاريخ، وسيكون الاستخدام الوحيد لها هو توفير الموارد لـ “الغرب المنتصر”.

بعد ذلك، نفذ القادة الأنغلو – صهاينة للإمبراطورية هذه العملية تحت راية 11 أيلول المزيفة، والتي أعطتهم الذريعة لإطلاق الحرب العظمى على الإرهاب، لكنهم حولوا انتباههم تماما عما يسمى “التهديد الروسي” المزعوم، وذلك ببساطة لأنه لم يكن هناك أي تهديد روسي في عام 2001. وبعد ذلك، عادت روسيا: في عام 2013، منعت الهجوم الذي خططت له الولايات المتحدة الأمريكية وحلف شمال الأطلسي على سورية، وكانت الذريعة هنا الأسلحة الكيماوية في سورية. وفي عام 2014، قدمت روسيا دعمها للانتفاضة في شبه جزيرة القرم ضد النظام الأوكراني في كييف؛ وفي العام نفسه أجرت استفتاء للسماح للسكان المحليين بالتصويت للانضمام إلى روسيا. أخيرا، وفي عام 2015، أذهلت روسيا الغرب بدخولها إلى سورية بناء على طلب الحكومة السورية لمؤازرة الجيش العربي السوري في دحر التنظيمات التكفيرية الإرهابية، وعلى رأسها “جبهة النصرة” ذراع القاعدة في سورية، و”داعش”، إضافة إلى التنظيمات الأخرى” المعتدلة”. وبالتالي، من وجهة نظر الغرب، ارتكبت روسيا نوعين مختلفين من الجرائم: الدخول إلى سورية وعدم طلبها الأذن من الإمبراطورية للقيام بذلك.

كانت “جريمة الجرائم” هذه هي التي أشعلت شرارة الهستيريا الحالية المعادية لروسيا، ولكن سرعان ما واجه حكام الإمبراطورية المصابين بالذهول الهيستيري مشكلة محبطة للغاية: في حين أن الهستيريا المعادية للروس كان لها صدى كبير في الغرب، فقد أثارت ردود فعل قوية في روسيا.

وبعيدا عن مواجهة البروباغندا الغربية المعادية لروسيا، استخدم الكرملين قوته لجعل وسائل الإعلام متاحة على نطاق واسع باللغة الروسية وكانت النتيجة المباشرة ذات شقين: أولا، بدأت “المعارضة” بقيادة وكالة الاستخبارات المركزية الأمريكية وجهاز الاستخبارات البريطانية “MI6” الارتباط بقوة بأعداء روسيا الذين يعانون من “رهاب روسيا”، وثانيا، احتشد عامة الناس في روسيا خلف بوتين وموقفه.

هذه الخطوة تمثل “المرحلة الأولى من الاستراتيجية المناهضة لبوتين، والتي تنفذها الفرقة الرابعة في الجيش الأمريكي للعمليات السيكولوجية، ونتيجتها ليست فقط غير ناجحة تماما، بل كان لها تأثير عكسي ومغاير في روسيا للهدف المرجو منها، وتلخصت المرحلة الثانية في تحريك” المعارضة” في الداخل وتحريضها على إحداث البلبلة، وهو ما يفسر ظهور “حركة الشيوعيين الجدد”، والذين أطلقوا حملة بروباغندا داخلية مناهضة للكرملين متهمين بوتين بأنه لم يفعل شيئا منذ تسلمه السلطة، وأن روسيا ليست بخير، بل تنهار بجيشها واقتصادها وعلمها.

 

هل الحرب حتمية الآن؟

لا تشارك الولايات المتحدة الأمريكية وحلف الناتو في عمليات حفظ سلام استراتيجية لمجرد أنهما يحبان أو يكرهان شخصا ما، فالهدف الرئيسي لفرقة العمليات السيكولوجية في الجيش الأمريكي هو كسر إرادة مقاومة الطرف الآخر، وكان هذا أيضا الهدف الرئيسي لإثنين من برامج العمليات السيكولوجية المناهضة لبوتين (المرحلتان 1، و2)، وكلاهما فشل، والخطر هنا هو أن هذه الإخفاقات فشلت في إقناع حكام الإمبراطورية بالحاجة الملحة لتغيير المسار وقبول “الواقع الروسي”، حتى لو لم يعجبهم.

منذ أن تولت إدارة بايدن الحكم، شهد العالم تصعيدا حادا في الادعاءات المعادية لروسيا؛ والأسوأ من ذلك، لم تقتصر الامبراطورية على الكلمات، بل قامت أيضا ببعض “الحركات الجسدية” المهمة للإشارة إلى عزمها على السعي إلى مواجهة أعمق مع روسيا.

كان هناك الكثير من قعقعة السيوف من الغرب، وخاصة المناورات العسكرية المضللة – إن لم تكن غبية تماما – بالقرب من الحدود الروسية أو على طولها. ولكن هذه المناورات محكوم عليها بالفشل من وجهة نظر عسكرية (كلما اقترب المرء من الحدود الروسية، زاد خطر القوات العسكرية الغربية)؛ ومع ذلك، فهي من الناحية السياسية استفزازية للغاية، وبالتالي فهي خطيرة.

لا تعتقد الغالبية العظمى من المحللين الروس أن أمريكا وحلف شمال الأطلسي سيهاجمان روسيا علانية، لأن ذلك سيكون انتحاريا، ذلك أن التوازن العسكري الحالي في أوروبا هو لصالح روسيا بقوة، حتى بدون استخدام أسلحة تفوق سرعة الصوت.

في نهاية المطاف، لطالما كانت الإمبراطورية الأنغلو – صهيونية عنصرية في جوهرها، ولا تزال بالنسبة لحكامها، وهي تعتبر الشعب الأوكراني وقودا لمدافعها، وأمة من الدرجة الثالثة، بلا فائدة، وبلا قيادة تتجاوز الغرض من استخامها. وبينما يدرك المحللون الأمريكيون أن خطة الولايات المتحدة الخاصة بأوكرانيا قد انتهت بإخفاق مذهل آخر، وإلى حيث ينتهي الأمر بهذه الخطط الوهمية دائما، حتى لو لم تقل ذلك علنا. فإن الوضع يزداد سوءا في أوكرانيا، وإدارة بايدن تعمل على تأجيج الحالة والتحريض على التصعيد، خاصة وأن آخر المعلومات تفيد بأن أوكرانيا نقلت الكثير من المركبات المدرعة الثقيلة إلى خط التماس. وصحيح أن أوكرانيا أصبحت دولة فاشلة تماما منذ انقلاب النازيين الجدد، إلا أنها فوق ذلك تشهد اليوم تسارعا ملحوظا في انهيار النظام أو الدولة.. تنهار أوكرانيا بسرعة كبيرة، بحيث يمكن للمرء إنشاء موقع ويب كامل لمتابعة تطور هذا الرعب، ليس يوما بعد يوم، ولكن ساعة بعد ساعة.

 

هل يمكن تجنب الحرب؟

الإجابة غير معروفة.. لقد وجه بوتين تحذيرا شديد اللهجة للأوكرو نازيين (“عواقب وخيمة على دولة أوكرانيا بحد ذاتها”). ويبدو ألا حد من رجال السلطة في كييف يهتم بأوكرانيا أو بدولتها، لكنهم أذكياء بما يكفي لفهم أن الهجوم الروسي المضاد للدفاع عن روسيا وشبه جزيرة القرم يمكن أن يشمل ضربات دقيقة تستهدف “القيادة” بصواريخ متطورة. وقد تم تحذير القادة “الأوكرو نازيين” من مغبة المصير، و أن يدركوا أن لديهم جميعا هدفا مرسوما على رؤوسهم، وقد يفكرون أيضا في هذا: ماذا حدث لجميع قادة العصابات الوهابية في الشيشان منذ نهاية حرب الشيشان الثانية؟ هل سيكون ذلك كافيا لمنعهم؟

بالنسبة للمستقبل المنظور، لم يتبق سوى خيارين أمام أوكرانيا: “نهاية مروعة، أو رعب لا نهاية له، وسيكون أفضل سيناريو لشعب أوكرانيا هو تقسيم البلاد بشكل سلمي نسبيا إلى أجزاء يمكن التحكم فيها!!

أما الخيار الأسوأ فسوف يكون بلا شك شن حربا شاملة ضد روسيا.

الخطاب المنبعث من كييف هذه الأيام يشير إلى أن معظم السياسيين الأوكرانيين يؤيدون بقوة الخيار الثاني، خاصة وأنه أيضا الخيار الوحيد المقبول لأسيادهم الأجانب. كما تبنى الأوكرانيون عقيدة عسكرية جديدة أطلقوا عليها اسم “استراتيجية الأمن العسكري لأوكرانيا”، والتي تعلن روسيا كمعتد وخصم عسكري لأوكرانيا.

وقد يكون هذا هو السبب الذي دفع ميركل وماكرون لعقد مؤتمر عبر الفيديو مؤخرا مع بوتين، حيث حاول بوتين إقناع ميركل وماكرون بأن مثل هذه الحرب ستكون بمثابة كارثة حقيقية على أوروبا. وفي الوقت نفسه، تعمل روسيا على تعزيز قواتها بسرعة على طول الحدود الأوكرانية، بما في ذلك شبه جزيرة القرم.

آخر الأخبار على الجبهة الأمريكية الأوكرانية هي تسليم البحرية الأمريكية 350 طنا من المعدات العسكرية إلى أوديسا، ورغم أن ذلك ليس كافيا ليكون ذا أهمية عسكرية، ولكنه أكثر من كافٍ لتحريض نظام كييف على مهاجمة دونباس أو شبه جزيرة القرم.

بكل الأحوال، في الوقت الراهن، لا تساعد الأحوال الجوية في شرق أوكرانيا على العمليات العسكرية الهجومية، إذ يستمر الجليد في الذوبان ما يخلق ظروف طريق صعبة للغاية وموحلة، ما يعيق بشكل كبير حركة القوات، ولكن هذه الظروف ستتغير مع بداية موسم الدفء، و ستكون القوات الأوكرانية في وضع مثالي للهجوم.

بمعنى آخر، إذا لم يطرأ تغيير كبير، فالعالم على موعد مع حرب كارثية لن تحمد عقباها.