الصفحة الاخيرةصحيفة البعث

ساحرة العصور

غالية خوجة

يفتح الكتاب الورقي أجنحته على الأزمنة، ليمنحك بعضها وأنت تفتح بوابات القراءة المتنوّعة، مما يجعلك ذاتاً أخرى أضاقت لذاتها العديد من المواضيع القابلة للمناقشة والمحاورة والتوافق والاختلاف.

كأنك تحلق، الآن، مع الدلالات بتحولاتها المفاهيمية والتجريدية والصياغية واللغوية والنحوية والموسيقية واللونية، وتنشئ علائق مختلفة بينك وبين حواس الكلمة وذاكرتها وحاضرها وآتيها، فتتداخل بتشاركية مع ما تقرأهُ، مطمئناً إلى تطوير ذاتك المرفرفة بروحك الكاشفة للكلمة البيضاء والسوداء والرمادية، فيجذبك النبض الصادق، والمعلومة المتحركة، والبصيرة ذات القلب الرائي لتسبح أكثر في أعماق الشبكة الدلالية وألوانها وإيحاءاتها وإشاراتها وأبعادها بين التصريح والتلميح.

ضمن هذا الأفق القرائي المتوقع، ما زال للكتاب رنينه في دواخلنا، منذ الرقيمات الطينية وورق البُردى ولحاء الأشجار وجلود الحيوانات والورق العادي والشاشة الإلكترونية. ولأجل هذا التفاعل، ولمزيد من تفتيح الوعي، تقيم الجهات المختلفة، معارض للكتب احتفاء بك أيها القارئ الكريم، الذي يهمّه ما يتضمنه المتْن، وما سيضيفه لثقافته ومعرفته وإنسانيته، وهنا، تسمعني أهمس: الكتابة ساحرة العصور، والقراءة بُعدها المسحور المنظور واللامنظور، والكتاب شمسها المعتّقة بالسرور، المضاءة بالتجارب والخبرات الإنسانية، وكلما استوغلْتَ في القراءة، ناديتَ: هل من مزيد؟ لتجيبك القراطيس والكتب: لك ما تريد.

تلك حالتك، وأنت تصادق المؤلفين والمؤلفات، الأحياء منهم ومنهنّ والأموات، وتنظر إلى الحياة من جهاتها المختلفة لتكتشف كيف الغوص إلى الأعماق يجذبك أكثر، فما ينفع الناس يظل بينهم، ويتشجّر، ويمطر، يعطّرك، وبنورك يتعطّر، ويغدو سنابلَ تتلألأ في كل مكان تبذر فيه الكلمة الطيبة ظلالها، لتشرق روحك مع كل شمس، وقمر، وفعل منير. فهل تساءلت: لماذا لا أمسك الكتاب بيد ورغيف الخبز بيد مهما كانت ظروفنا المادية صعبة؟.

هذا ممكن لأن معارض الكتب توفر حسومات باهظة للشراء، كما أن المكتبات العامة تفتح قلوبها مجاناً ومحبة للقراء والطلبة والعائلات وعشاق القراءة والمعرفة والعلم، وهناك، في هذه المكتبات بإمكانك الاستمتاع بالهدوء وتغيير المزاج وإضافة المعرفة.

لكن، ماذا لو كان لكل عائلة مكتبة مناسبة في البيت؟ وماذا لو اتفق الجيران على قراءة كتاب كل شهر ليناقشوهُ معاً سواء أكان ورقياً أم إلكترونياً؟ وماذا لو أن فكرة مكتبة الحي تكون حية بيننا ويساهم فيها مختار الحي؟ وماذا عن المكتبات الجوالة؟ وما اهتمامك فيما لو رأيت بائعاً يضع على عربته كتباً بدل الخضار؟

لربما، حينها، تساءلت: لماذا لا تخرج جلساتنا الاجتماعية من عتبة المطبخ لتدخل إلى الحديث حول الكتب والعلم والثقافة؟ لماذا لا نتذكر مقولة عيسى عليه السلام: “ليس بالخبز وحده يحيا الإنسان”؟ ولماذا لا نتفكّر بأن الله سبحانه وتعالى أَولى القراءة والكتاب بكافة الدلالات المقدسة واليومية والحياتية أهمية نورانية، وضرورة روحية وعقلية ونفسية، لأنها تساعدنا على الإبحار بين المكتوب وأبجديته واللا مكتوب وأبجديته، فنتأمّل ونتخيّل ونتفكّر، لكي لا يكون “على قلوب أقفالها”، ولنفتح أجنحة عقولنا وأرواحنا لنصنع الحياة والحضارة، فلا نستهلك بجهل وتخلّف الحياة والتأريخ والعراقة والحضارة، فنستبصر ونبدع أنفسنا وبيئتنا والحياة والعالم، فنكون منتجين مختلفين متشاركين في صياغة الحياة بعراقتها وحداثتها ومستقبلها، ونكون مرايا لوطننا العريق، فلا نترك الكتاب مهجوراً، بل نجعله شمساً تنير حتى في الليل ذاك الطريق، ولا بد من الوعي المضاء لنرتقي ونطمئنّ بأنه النور الذي تحمله الأجيال التي ستبني المستقبلَ المعاصر والعتيق.