تحقيقاتصحيفة البعث

بعد قرابة عقدين على “ولادته ميتاً”.. مساع لـ “تزخيم” معهد الدراسات والبحوث السكانية!

عادة ما تكون معاهد الدراسات والبحوث السكانية المنتشرة في العديد من دول العالم مراكز لصنع القرار وحل المشاكل، أو مراكز تدخل إيجابي فيما يتعلق بالشؤون الاجتماعية والقانونية وغيرها، إذ يقوم المعهد بدراسة مجمل هذه القضايا وذلك من خلال ما ينجزه من دراسات عن السكان -الذي يعتبر العنصر الأهم في أي بلد – لمعرفة اتجاهاتهم، وعددهم، وتوزعهم، وصفاتهم المميزة، وتوزع المهن، إضافةً إلى قياس مدى تطورهم وزيادة عددهم، وما يلحق هذه الزيادة من ارتفاع في عدد الأطفال، وما يرافقها بطبيعة الحال من الحاجة لزيادة المدارس والصحة وغيرها.. وبالتالي فإن تغييب معهد الدراسات والبحوث السكانية عن ممارسة دوره في سورية على الرغم من تأسيسه منذ عام 2003 بمرسوم تشريعي رقم 32، يثير الكثير من إشارات الاستفهام حول اعتكافه عن ممارسة دوره الهام وضرورة ممارسة مسؤولياته في هذه الفترة العصيبة والحساسة..!.

وفي وقت أكد عميد المعهد العالي للدراسات والبحوث السكانية، الدكتور حيدر أحمد عباس، على الدور المهم الذي يفترض أن يقوم به المعهد، بين أن الأخير يستمد خصوصيته من كونه الوحيد المختص بكل القضايا التي تهم السكان، ولم يخف حقيقة أن المعهد “وُلِدَ ميتاً، مجهولاً، لم يسمع به أحد من قبل، لا طلاب ولا هيئات ولا مؤسسات ولا وزارت”، مشيراً إلى أن عدد طلابه في السنوات السابقة لم يكن ليتجاوز عدد طلاب قسم صغير في كليةٍ من الكليات، على الرغم من أنه مؤسسة مستقلة وتم تأسيسه منذ 17 سنة ليكون مختصاً بكل قضايا السكان..!

ما سبق يؤكد – حسب رأي عباس – على المنهجية الخاطئة في تشغليه واستثماره وإعطاء وظيفته، مردداً الكلام الذي كنا نسمعه باستمرار في الفترة السابقة عن ضرورة التشبيك مع المؤسسات الدولية، وما يلتبس ذلك من صعوبة في التنفيذ، لأن المطلوب بدايةً هو أن نأخذ حجمنا محلياً، ثم نتجه لفرض أنفسنا على الآخرين، واليوم – والكلام لعباس – يمكننا القول إن الوضع تغير بعض الشيء، وأصبح هناك إلى حدٍ ما إقبال من الطلاب على المعهد، لذلك قمنا باتخاذ مجموعة إجراءات تمثلت بمراسلة عدة وزارات كالتربية والصحة وعدة هيئات إضافة لجامعة دمشق لإنعاش المعهد، وهذا ما أعطى المعهد زخماً في آخر سنتين، وزاد نسبة الإقبال عليه من قبل الطلاب، حيث كان الإقبال على المعهد هذا العام، يعادل عدد الطلاب خلال الـ 17 سنة الماضية، ونسعى اليوم لفتح سلسة ماجستيرات جديدة في المعهد لتُخرج نوعية متميزة من الباحثين وحملة الماجستير، لينتشر المعهد أفقياً وليتمكن من التحرك بحرية.

معاناة ونقص

الأزمة الكبيرة من وجهة نظر عباس تتمثل بالقاعات والبناء الصغير، وبالنقص الكبير في الكادر التدريسي والموظفين، مضيفاً أن إدارة المعهد تعمل اليوم على زيادة عدد الكادر التعليمي، حيث كان عدد الأساتذة 2 فقط على ملاك المعهد، في حين كان المعهد وما زال يعتمد على عدد من الأساتذة من خارج ملاكه. وفي هذه الفترة استطاعت الوزارة زيادة عدد الكادر إلى خمسة على ملاك المعهد، وسترفع العدد إلى 10، وعند استكمال الكادر سيكون المعهد قادر على تغطية النقص.

وجود شكلي

يرى عباس أن وجود المعهد في الفترة السابقة كان شكلياً، ولم يكن له أي دور على أرض الواقع، ولو أنه أثبت وجوده لكان شكَّل مركزاً لإدارة الأزمة التي نمر بها، ونواة لإدارة التفاهم والتنبؤ والنصح، فخلال فترة الأزمة لم يطلب أحد من المعهد – سواء من الطلاب أو الباحثين أو الأساتذة – أن يبدي رأيه فيما يحصل، في حين أن من الطبيعي أن يكون كادر المعهد من أساتذة وباحثين، ومنذ البداية، هم من يدير الأزمة توجيهاً إعلامياً وسكانياً واجتماعياً، ويقدمون بالنهاية الحلول والمعالجات، أضف إلى ذلك عدم وجود رسالة ماجستير واحدة في مكتبة الأسد من المعهد منذ تأسيسه، وهذا ما يجعل الرسائل المنجزة في السنوات السابقة شكلية!

وأكد عباس أن إدارة المعهد عملت على تنبيه الطلاب لزيادة جودة الرسائل والعمل على عدم قبول قرار التخرج إلا بتسليم نسخة لمكتبة الأسد، ويأمل بضم الفروع الموجودة في أقسام الدراسات السكانية في جامعات القطر لتتبع للمعهد، كأقسام الدراسات السكانية في جامعتي تشرين وحلب، الأمر الذي يعطي انتشاراً وحجماً أكبر للمعهد ويقوي ويعزز من دوره، عوضاً من تركهم على وضعهم الحالي.

إهمال حكومي!!

الدكتور حسين نوفل، أستاذ في كلية الطب البشري جامعة دمشق، ومُدرِس مادتي أخلاقيات وحالات سريرية لماجستير حماية الأسرة من العنف في المعهد، يؤكد على اعتماد الحكومات والمؤسسات الاقتصادية والاجتماعية في دول العالم المختلفة على الدراسات التي تصدر عن مثل هذه المعاهد لبناء خططها، وهذا ما نفتقر له، فجامعاتنا تقوم حسب كلياتها بوضع وإنجاز الدراسات، وعلى الرغم من ذلك فإن معظم هذه الدراسات لا تُطبق ولم تستفد منها أي من الحكومات السابقة أو الحالية، إلا بعض ما قد يُنجز في كليات الطب والصيدلة أو طب الأسنان، مشيراً إلى أن رسائل الماجستير – وحتى الدكتوراه – التي تُنجز لا يُؤخذ بها أو باقتراحاتها، وتبقى الغاية منها هي تعيين حاملها بوظيفة ما حسب درجة شهادته..!

وأضاف نوفل أنه على أرض الواقع لم نرَ أياً من الحكومات المتعاقبة اعتمدت على رسالة ماجستير في الهندسة مثلاً وطبقتها، كتلك المتعلقة بتخطيط المدن، لدرجةٍ أصبحت مدننا اليوم بلا هوية، في حين كانت في فترات سابقة مدناً بهوياتٍ محددة وواضحة، حتى أن بعض مدن العالم كانت تُقلد طرازها المعماري والهندسي، كالأندلس التي خُططت على أساس يشبه مدينة دمشق، ومن يدقق اليوم سيرى مثلاً النمط الفرنسي لبعض الأبنية في دمشق التي أشيدت في فترةٍ معينة، وهذا ما لم نعد نراه اليوم، فمدننا اليوم أصبحت عبارة عن أبنية كعلب الكبريت ليس لها أي شكل معماري هندسي!!

نظرة استراتيجية

يرى نوفل أن تأسيس المعهد كان بناءً على أساس نظرة استراتيجية ليفيد الدولة، ولكنه لم يعطَ آليات التنفيذ، والمشكلة أن الإدارات المتعاقبة على المعهد لم تملك الصلاحيات الكافية لتطوير نفسها لجهة وجود كادر تدريسي، أو لأهمية الدراسات المنجزة، واقتصر دورها على منح رسائل ماجستير في بعض الاختصاصات كـ “الدراسات التربوية”، ولو وجدت دراسات حقيقية قبل عشر سنوات لتمكنت من توقع التغيير الحاصل؟!

حتماً، المجتمع قبل 50 سنة يختلف عما هو اليوم، فالمجتمعات في تغيير مستمر، ولكن يا ترى هل هذا التغير إيجابي؟ هذا ما طرحه الدكتور نوفل وأكد من خلاله على حتمية معرفة تغيرات المجتمع خلال مراحل متعاقبة، ومن خلال دراسات مختلفة عن وضع الأطفال – مثلاً – لأنهم هم من سنعتمد عليهم لاحقاً، وتحديد الاضطرابات التي يعانون منها، لأن هذه الاضطرابات ستنعكس عليهم فيما بعد، وهو ما يمكِّننا أن نحتم ونؤكد أنه لو وجدت دراسات سكانية حقيقية وعلمية قبل عشر سنوات لكانت بالتأكيد ستتوقع هذا التغي؛ وهذا بالتالي يؤخذ على الحكومات التي لم تأخذ بالدراسات التي وجدت سواء في الجامعات المختلفة أو في معهد الدراسات، ولا تزال لغاية الآن تتبع نفس السياسة، لذلك نرى كل الدراسات المُنجزة حبيسة الأدراج لا يُستفاد منها لا في التربية ولا التعليم، ولا المواصلات، ولا القضايا الجامعية! مؤكداً أن 90 بالمئة من خريجي الجامعات السورية بكل اختصاصاتهم هم الأفضل، والدليل على هذا الاستنتاج ما يحققه هؤلاء الخريجون من إبداع لم يقتصر على دول الخليج بل ينسحب إلى ألمانيا ودول أوربية مختلفة، لنصل لنتيجة أن المشكلة عند السلطات التنفيذية التي لطالما نسمع منها عن ربط الجامعة بالمجتمع، على اعتبار أن الجامعة هي التي تغذي المجتمعات بالأفكار الجديدة، ليبقى كل ذلك مجرد شعار وكلام!

ختاماً

إن إيلاء المعهد العالي للدراسات والبحوث السكانية الدور المنوط به هو ما نحتاجه اليوم لنتمكن من وضع خطط مستقبلية، ولنكف عن العمل بعشوائية دون منهجية علمية واضحة ومحددة، أو كما يحدث عادة لننتظر لغاية حدوث المشكلة.. ونتفاجأ بها!!

لينا عدره