دراساتصحيفة البعث

شهداء السادس من أيار .. حجر الزاوية في بناء مجد الأمة العربي

د.معن منيف سليمان

فجعت الأمة العربية صبيحة السادس من أيار عام 1916، باستشهاد قافلة جديدة من خيرة أبنائها، حيث أعدم السفاح التركي أحمد جمال باشا واحداً وعشرين من الوطنيين العرب الأحرار في كل من دمشق وبيروت، بعد أن تم إعدام القافلة الأولى من الشهداء في 20 آب عام 1915، بعد أن عاد إلى صفحاته القديمة يراجعها ويستخرج منها خصوم الاتحاديين والمطالبين بحقوق العرب، وشرع يقبض عليهم الواحد تلو الآخر ويزجهم في السجون ليحاكموا أمام ديوانه الحربي.

لقد سيطر أعضاء جمعية الاتحاد والترقي على مقاليد الأمور، وأصبح “السلطان” أشبه بدمية تتقاذفها أيديهم، ووضعوا الخطط للقضاء على الروح الوطنية في جميع البلدان المنضوية تحت الاستعمار العثماني، فمضوا في سياسة البطش والتنكيل، ونصبوا المشانق في سورية ولبنان، وهدّدوا بنصبها في مكّة المكرّمة، في وقت اضطربت فيه أوضاع البلاد وعصفت بها الأزمات السياسية والاقتصادية، وباتت تهديدات الأعداء الأوروبيين التقليديين على الأبواب، حتى إن بعض العواصم العربية خضعت للاستعمار الأوروبي من إنكليز وفرنسيين.

أراد جمال باشا أن ينفّذ مخطّط الاتحاديين ويبطش بزعماء الحركة العربية لأجل أعمالهم السياسية، ففي أجواء الإغراق في التعصب ضدّ القومية العربية، وسوء الأوضاع الاقتصادية والسياسية والاجتماعية، أخذت النخب المثقفة المستنيرة تقارن بين ماضي العرب المجيد وواقعهم المتردّي المزري، وجهرت هذه النخب بصوتها عالياً تطالب بقيام دولة عربية أو حكم لا مركزي يتمتّع فيه العرب بشيء من الحرية والعدل والمساواة على غرار الشعوب المتقدّمة، ومن هذا المنطلق شرعت في تأسيس جمعيات ونوادٍ عربية وطنية لقيادة المجتمع العربي من أجل الحرية والإصلاح، والمعاملة وفق أحكام الدستور والحق والعدالة.

عدّت هذه المطالب الوطنية المشروعة جرائم سياسية في نظر الاتحاديين طالت قافلتين من المتهمين العرب الأحرار: الأولى أنتجت استشهاد أحد عشر شاباً في آب عام 1915، بقرار ديوان الحرب العرفي في عاليه، وهم: عبد الكريم الخليل رئيس المنتدى الأدبي، وسليم الأحمد عبد الهادي، وصالح أسعد حيد، وعلي الأرمنازي، ومحمد ومحمود المحمصاني، وعبد القادر الخرسا، ونايف تللو، ومسلم عابدين، ومحمود العجم، ونوري القاضي، وحكم على آخرين منهم بالإعدام غيابياً من جملتهم حسن حماد الذي توارى عن الأبصار، والثانية انتهت باستشهاد واحد وعشرين عيناً من أعيان البلاد في ربيع عام 1916، بحكم هذا الديوان، فضلاً عن أعمال التعذيب والتنكيل في خان الباشا بدمشق من أول تموز عام 1916، إلى آخر كانون الثاني عام 1917. فقد كان جمال باشا يقبض على من وجده في منطقة سلطته ويأمر بأن يرسلوا إليه من كان خارجها مخفوراً، فجاء بعبد الرحمن الزهراوي العضو في مجلس الأعيان، وعبد الوهاب الإنكليزي مفتش الملكية من الأستانة، وبشكري العسلي مفتش الملكية من حلب، وعبد الغني العريسي، والأمير عارف الشهابي، وجلال البخاري من البادية، وقبض على شفيق المؤيد العظم، والأمير عمر الجزائري، ورشدي الشمعة، وبقية الأحرار من مآمنهم في سورية. وعلى الرغم من الجهود التي بذلت للتوسط بشأنهم والحيلولة دون إعدامهم إلا أن جميع المساعي أخفقت ونفّذ حكم الإعدام في السادس من أيار عام 1916، في بيروت ودمشق، وكلهم كانوا من نوابغ العرب الضاربين بأعلى سهم في سجل التضحية الوطنية والجهاد القومي.

كان هؤلاء الأبطال القوميون الأحرار العرب يعيشون أفكارهم جامعين بين النضال بالكلمة والنضال السياسي القومي معرضين أنفسهم للسجن والنفي والإعدام في سبيل بناء مجد الأمة العربية، فها هو الشهيد عبد الغني العريسي يؤكد أن مجد الأمة لا يبنى إلا على جماجم الأبطال من أبنائها، فقال: “إن مجد الأمم لا يبنى إلا على جماجم الأبطال، فلتكن جماجمنا حجر الزاوية في بناء مجد الأمة العربي”.

لقد قدّم هؤلاء الأبطال الميامين أنفسهم قرابين على مذابح الشهادة في سبيل أن تحيا أجيال الأمة العربية عزيزة كريمة تنعم بالحرية والاستقلال والكرامة والوطنية، وتقدموا إلى أعواد المشانق التي نصبها الجلاد لهم في دمشق وبيروت وهاماتهم مرفوعة وقلوبهم ثابتة وحناجرهم تصدح “مرحباً بأرجوحة الشرف.. نموت لتحيا بلادنا حرة عزيزة”، فكان إعدامهم فاتحة عصر التحرر والاستقلال العربي الذي بدأ بإعلان الثورة العربية الكبرى عام 1916، حيث تحولت دماؤهم زيتاً أشعل لهيب الثورة التحريرية فأحرقت المحتلين وأجبرتهم على الجلاء عن بلادنا إلى غير رجعة، واستمر هذا اللهيب متقداً بفضل دماء الشهداء إلى أن تحقق جلاء المستعمر الفرنسي عن سورية عام 1946، وما زال متقداً ينير درب الأجيال التي تتوق إلى الحرية والعيش بكرامة، وسيستمر حتى تتحرر الأرض العربية وتنال استقلالها بالكامل.

ففي الجولان ولبنان وفلسطين والعراق واليمن ما زال المقاومون الأبطال يستضيئون بمشاعل هديهم في تحدي سلطات الغطرسة الصهيونية من خلال مقاومتهم لأفظع أنواع الاحتلال والغزو الاستيطاني البغيض، ويمدون جسور الموت سعياً وراء الحياة الكريمة لا يفت في عضدهم طغيان المحتل وجبروته وتعدد أساليب بطشه وسجنه وقتله، فهم يعلمون أنهم أحفاد شهداء السادس من أيار وعلى دربهم سائرون.

لقد حظيت الشهادة والشهداء في سورية بكل الرعاية، وحرص القائد المؤسس حافظ الأسد على تكريم الشهادة والشهداء، وجسد ذلك بالكثير من خطبه ومنها قوله: “إن اللحظة التي يبلغ فيها المرء أعلى المراتب الإنسانية، هي تلك اللحظة التي يسير فيها نحو الشهادة”، وكرّم الشهداء وأسرهم كما يجب أن يكون التكريم، وربط القول بالفعل فأصدر القرار رقم /49/ تاريخ 1/5/1985 المتضمن الإجراءات التي يجب اتخاذها كل عام للاحتفال بعيد الشهداء كعيد قومي. كما أولى سيادته أبناء الشهداء كل الاهتمام والرعاية وهيأ لهم المناخ التربوي السليم، فأنشأ المدارس النموذجية الخاصة بهم، وسميت بمدارس أبناء الشهداء، وهي تجربة فريدة من نوعها على مستوى العالم بأسره.

كما حرص السيد الرئيس بشار الأسد على رعاية أبناء الشهداء، فصدرت العديد من المنح والقرارات والمراسيم والتسهيلات الخاصة بأسر الشهداء خلال السنوات الماضية.

خلال أكثر من 11 عاماً من الحرب الإرهابية القذرة ضد سورية، المدعومة من الغرب المتصهين والعثمانيين الجدد ومشيخات البترودولار، قدّم الشعب السوري عامة وبواسل الجيش العربي السوري خاصة أرواحهم رخيصة في سبيل عدم تسليم الوطن للإرهابيين وداعميهم ومشغليهم، ولتنعم الأجيال القادمة بحياة كريمة تليق بالسوريين وحضارتهم الضاربة جذورها في التاريخ الإنساني، والحفاظ على سيادة ووحدة سورية، أرضاً وشعباً. وهم أكثر تصميماً على مواصلة المعركة للحفاظ على القرار السيادي الحر، واستكمال مسيرة الدفاع عن أرض سورية الغالية لتبقى عزيزة منيعة عصية على الغزاة والطامعين، وتحرير آخر ذرة من ثرى أرض الوطن الطاهرة من الإرهابين الصهيوني والتكفيري والاحتلالات سواء العثماني الجديد أم الأمريكي.