دراساتصحيفة البعث

الأخلاق في عالم السياسة

إعداد: عناية ناصر

تثير حالة السياسة الدولية المعاصرة أسئلة أساسية فيما يتعلّق بتقييمها من الناحية النظرية، فالسمة الرئيسية للوضع الحالي، الذي تطاله المناقشات العلمية وفضاء المعلومات، هي الإنكار شبه الكامل من قبل القوى الكبرى في العالم للحاجة لربط التصريحات بالسياسة الحقيقية. تلك البلدان التي حقّقت أهدافها إلى أقصى حدّ، ذهبت في المقابل، إلى أبعد من غيرها في التمييز بين “اليوتوبيا” والواقع في أهداف سياستها الخارجية.

وقد أشار إدوارد كار في كتابه “أزمة العشرين عاماً” إلى الوجود الحتمي لهاتين الفئتين، والصراع بينهما والتكامل الضروري، وإن كان جزئياً، لهذا المفهوم. كانت دول أوروبا، والغرب ككل، الأكثر قدرة على تحقيق التقارب بين هاتين الفئتين فيما بينهما. لكن خارجها، لم تُظهر الولايات المتحدة وحلفاؤها أبداً القدرة على التحرك في هذا الاتجاه. على سبيل المثال، لا يمكن للمبادرات الجديدة للاتحاد الأوروبي في مجال البيئة وتغيّر المناخ إلا أن تسعى إلى تحقيق هدف زيادة القدرة التنافسية للاقتصاد الأوروبي في المنافسة مع المراكز الآسيوية المتنامية.

لقد كانت المعايير المزدوجة سمة من سمات العلاقات الدولية لمدة 300 عام، ولا يمكننا أن نتوقع تغيراً في الوضع في المستقبل المنظور. حتى العلاقات بين القوى خلال فترة مؤتمر فيينا، رغم استنادها إلى مبدأ الاعتراف المتبادل بالشرعية، لم تستطع التخلّص تماماً من التدخل في الشؤون الداخلية لبعضها البعض.

في عام 1956، اقترح هنري كيسنجر، محللاً أسباب الاستقرار النسبي لنظام فيينا، أنه عندما تعتبر إحدى الدول الأفكار الداخلية للعدالة الموجودة في دولة أخرى تهديداً، لا يوجد أساس للحوار الدبلوماسي. لنتذكر أن هذه الفكرة في أوائل السبعينيات هي التي شكلت الأساس الفكري لسياسة التقارب مع الصين الشيوعية. الآن نرى أن الاهتمام المشترك بشأن الحالة الداخلية للدول الأجنبية هو المعيار للعلاقات بين الدول التي ترتبط بتحالف رسمي، مثل الولايات المتحدة والدول الأوروبية.

في جميع الحالات الأخرى تقريباً، أصبح الإنكار المتبادل للشرعية هو القاعدة في سلوك السياسة الخارجية. هذا المعيار الغريب يتمّ ملاحظته، للوهلة الأولى، في المقام الأول لدى الدول الغربية، إذ ترفض الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي بشكل عام التغاضي عن الأفكار الداخلية للدول الأخرى حول العدالة، هذا جانب مهمّ من خطابها السياسي ومن ممارساتها، والتي لها أبعاد خارجية وداخلية. وبالمناسبة، فإن مثل هذه الجوانب الداخلية تزيد فعلاً من دور المواقف الغربية في تعميق الصعوبات التي تواجهها الأنظمة السياسية والاقتصادية الوطنية عند مواجهة الضغوط الخارجية.

صحيح، أن نيكولو مكيافيلي اعتقد أن الأخلاق في السياسة ليست مشتقة من الأخلاق البسيطة بسبب تفرد الدولة. لكنه، مثل كل منظري السياسة الواقعية التقليديين، أصرّ على وجود مجموعة خاصة من الأخلاق التي تؤثر على العلاقات بين الشعوب. الآن يبدو أن مثل هذه الأخلاق قد تكون غائبة تماماً.