ثقافةصحيفة البعث

الفن وروح الفن

قال الأديب الإيرلندي أوسكار وايلد في مقال استهل رواية “صورة دوريان غراي”: “لا نفع في الفن إطلاقاً”.

وقال الفيلسوف الإسباني خوسيه أورتيغا إي غاسيت في كتابه “تجريد الفن من النزعة الإنسانية”: “لعل الاستعارة أخصب قدرة امتلكها الإنسان”.

إن كلام أوسكار وايلد عن انعدام نفع الفن أمر معهود منه، ويمكن القول إنه شذرة حكمة لا تخلو من تناقض، ويعبر بوجه ما عن نوع غريب من النقاء. ويبدو وايلد كأنه كان يحاول تعريف الفن، ويقترح أن أي شيء مفيد ليس فناً بل مجرد تحفة صنعها إنسان، ويبدو في هذه الطريقة أنه يرفع من أهمية الفن ليضعه في مستوى أعلى من النفعية المحضة فيؤلّهه. وهناك كثير من الفلاسفة المتعارضين بالأفكار، أمثال أفلاطون وكانط وهيغل، وضعوا نظريات مطولة عن الأستاطيقا، أو علم الجمال. مع هذا، يقرّ بعضهم بأنهم أحسوا بشعور خفي بأن تأمل اللوحات والتفكّر في الموسيقى هو نوع مبتذل من البحث والتحقيق أكثر من البحث في المخاوف الوجودية الملحة المتعلقة بالأخلاق أو فلسفة العقل. لكن الأستاطيقا ليست مبتذلة ولا منفصلة عن الاهتمامات الأخلاقية، ولا هي منفصلة عن التحقيقات الفلسفية الأوسع في طبيعة الإنسانية.

وفي مفهوم غاسيت للاستعارة، يستقبل وعينا تدفقات من البيانات الحسية زاخرة بالأشكال والألوان تأتي من أعيننا وآذاننا وأناملنا، وزاخرة أيضاً بمعلومات حول العالم الذي نعيش فيه، لكن تلك المعلومات تحتاج إلى ترجمة، لذا وجب على أدمغتنا أن تستنبط طرقاً لمعالجة تلك البيانات الكثيرة بنجاح، ولاستخراج وتنظيم المعلومات التي تتخطى الاهتزازات البدنية وإثارة النهايات العصبية. وفي هذا قال الفيلسوف الأمريكي ويليام جيمس: لا بد أن العالم في نظر الطفل حديث الولادة مجرد “فوضى مليئة بألوان ساطعة وبأصوات غير مفهومة”، لكنه سرعان ما يتوقف عن رؤية الخطوط المتموجة، ويرى بدلها كرسيه المفضل، ويتوقف عن رؤية لطختين دائريتين ويرى وجهي أبويه المحبين. تختلف هذه التصورات الداخلية بشدة عن البيانات الأولية الواردة ولكنها مرتبطة بطريقة منتظمة ومتوقعة مع العالم الخارجي الذي يسببها والذي يمثلونه، بمعنى أنها ليست العالم نفسه بل استعارة عن العالم.

وفي مرحلة بعيدة من مراحل التاريخ، تعلم البشر القدماء تصوير العالم ليس في دواخلهم فحسب، بل لبعضهم بعضاً أيضاً، فاستخدموا تارة النخير وما يرافقه من إيماءات، وتارة قطع الفحم والمغرة [حجر يستخرج منه صبغ بني] لنقل الصور من رؤوسهم إلى جدران كهوفهم.

ويجادل توم هيغام أستاذ علم الآثار في جامعة أكسفورد في كتابه “العالم السابق” بأن البشر الأوائل شاركوا في التبادل الثقافي فيما بينهم، في هذه الحال، ربما يكون هناك تسلسل فني يرسم خطاً مباشراً من الإنسان القديم إلى الفنان الإنكليزي داميان هيرست.

ولكن في القرن الماضي أو نحو ذلك، حين حاول الفنانون نقل مزيد من الموضوعات المجردة، وجب عليهم ألا يعتمدوا على التصوير المباشر، بل على أنواع مختلفة من الاستعارات، فأضافوا طبقة جديدة كلياً –شكلتها الاستعارة – فوق الطبقة الأصلية للتصوير المجازي في العقل.

لقد تعلم عشاق الفن – كما يتعلم الرضّع – أن بضعة أشكال مجردة وملونة يمكن أن تمثل كرسياً أو امرأة أو مفهوماً. حقيقةً، من المدهش أن يكون لهذا تأثير على الإطلاق، إذ إن بإمكان لوحة تجريدية أو منحوتة لأفكار ورؤى وعواطف معقدة يصورها دماغ شخص ما أن تشق طريقها بطريقة ما إلى دماغ شخص آخر، وإنها لقصة آسرة وعملية مليئة بالأسرار تستحق البحث والتمحيص.

يحاول علماء الأستاطيقا في أحوال كثيرة تحديد ماهية الفن وما يجدر عدّه فناً، وهذه بالتأكيد طريقة مثمرة لتوسيع فهم الفن وإعطائه القدر الذي يستحق، وهي تشجع الفنانين على الخوض في المفاهيم المجردة إلى حد أن الناقد الفني الكبير آرثر دانتو كان يعتقد أن الفن يغور في غياهب الفلسفة، وكتب الرسام الإنكليزي ويليام هازليت في عام 1839: “تفتك القواعد والقوالب بروح الفن والعبقرية”، لكن معظم الفنانين يتمتعون بالحكمة الكافية للاستماع إلى النظريات الفلسفية بفضول ورحابة صدر عندما يتعلق الأمر بإنتاج الفن فعلياً، دون أن يخضعوا لها أكثر مما ينبغي فتقيد إبداعاتهم.

علاء العطار