دراساتصحيفة البعث

“الإبادة الأرمنية”.. نهاية تاريخ طويل من الإنكار

سمر سامي السمارة

في إعلان يراه البعض تاريخياً، اعترف الرئيس الأميركي جو بايدن بأن المذبحة التي ارتكبتها السلطنة العثمانية بحق الأرمن، كانت إبادة جماعية، ليكون بذلك أول رئيس أمريكي يصف مقتل 1,5 مليون أرمني بالإبادة، وذلك في آخر حلقة من اعترافات دولية متتالية بالمجازر التي ارتكبت بحق الأرمن، إضافة إلى قيام الكنيسة الكاثوليكية “الفاتيكان” بفتح الأرشيف المتعلّق بإبادة الأرمن في تركيا، واعتراف البرلمان الألماني بالإبادة الأرمنية، وهو ما اعتبره خبراء بأنه أكبر إثبات ودليل، خاصة وأن برلين كانت حليفاً رئيسياً لأنقرة خلال الحرب العالمية الأولى، علاوة على أن ألمانيا تمتلك جميع أسرار الدولة العثمانية.

وكان الرئيس رونالد ريغان، الذي بدأ حياته السياسية بين عدد كبير من السكان الأرمن الأمريكيين في كاليفورنيا، أشار إلى المذابح باعتبارها إبادة جماعية، كما أصدر الكونغرس، في العام 2019، وبأغلبية ساحقة، قرارات غير ملزمة في مجلسي النواب والشيوخ، وصفت ما حدث في العام 1915 بأنه إبادة جماعية. ومع ذلك، امتنع الرؤساء الآخرون عن استخدام هذا المصطلح خلال فترة وجودهم في المنصب، فإدارة الرئيس السابق، دونالد ترامب، رفضت الاعتراف بأن ما حدث إبادة ووصف ترامب نفسه، في ذكرى الإبادة الجماعية للأرمن، مجازر العام 1915 بأنها “واحدة من أسوأ الفظائع الجماعية في القرن العشرين”، وهذا هو حال الرؤساء الأميركيين المتعاقبين، وكان الموقف الرسمي للولايات المتحدة وصف ما حدث بـ”أعمال فظيعة”!.

ضغوط  

ومع أن الولايات المتحدة انتظرت 106 أعوام للاعتراف بأن ما حدث من قتل وتشريد ومذابح جماعية وسحل وإحراق لشباب الأرمن واغتصاب للنساء اللواتي تم إلقاؤهن مع أطفالهن في الصحراء لينال منهم العطش والموت وتطمرهم الكثبان، بالإضافة إلى اعتقال المثقفين الأرمن في القسطنطينية، منذ العام 1915، والاستمرار ببرنامج مركزي للترحيل والقتل والنهب والاغتصاب حتى عام 1923، ثم طرد الأرمن من منازلهم وإرسالهم في مسيرات الموت عبر صحراء بلاد ما بين النهرين دون طعام أو ماء، بحيث لم يتبق منهم سوى 388 ألفاً بحلول العام 1923، من أصل 2 مليون في العام 1914، يرقى إلى مستوى إبادة جماعية، فقد رأت صحيفة “النيويورك تايمز” أن “هذا الإعلان الذي يحمل ثقلاً رمزياً هائلاً (..) يعني المساواة بين ما ارتكبه العثمانيون وما وقع من إبادة جماعية في رواندا عام 1994، وما حدث على أيدي النازيين في الحرب العالمية الثانية”.

وهنا، لابد لنا من الإشارة إلى أن هذا الاعتراف جاء نتيجة ضغوط الديمقراطيين والجمهوريين في الكابيتول هيل على الرئيس بايدن ليصبح أول رئيس أمريكي يعترف بالإبادة الأرمنية، إضافة إلى كفاح الأرمن الأمريكيين، بما في ذلك الجالية الكبيرة في جنوب كاليفورنيا، على مدى عقود من الزمن، لجعل الحكومة الفيدرالية تعتبر المذبحة التي استمرت لسنوات إبان سقوط الإمبراطورية العثمانية إبادة جماعية، لكن هذا الاعتراف ظل بعيد المنال، حيث وقع ضحية حسابات سياسية بشأن تدمير علاقة مهمة مع دولة حليفة في الناتو.

فقد قام النائب الديمقراطي آدم شيف، وهو من المؤيدين منذ عقود لوصف الأحداث بأنها إبادة جماعية، بنقل اقتراح مباشر إلى رئيس موظفي البيت الأبيض ومدير الأمن القومي، وحثهما على الاعتراف، كما توجّه رئيس لجنة العلاقات الخارجية في مجلس الشيوخ، السيناتور روبرت مينينديز، إلى وزير الخارجية بلينكين بالرسالة نفسها؛ وتوقع مينينديز أن الرئيس سيوفي بما وعد في الحملة الانتخابية، ونوه إلى أن الرؤساء الديمقراطيين والجمهوريين أخطأوا عندما لم يفعلوا ذلك، وأضاف: إذا كان من المفترض أن يكون لعبارة “لن تتكرر مرة أخرى” معنىً، فإن ذلك يبدأ على الأقل بالاعتراف بأن ما حدث هو إبادة جماعية؛ وطالب كل من شيف ومينينديز وقرابة 150 مشرعاً آخر بالمثل في رسائل أخيرة بأن يقرّ بايدن بذلك.

لماذا تأخر الاعتراف؟

يرى محللون أن العلاقات الأمريكية التركية، التي تطورت بعد الحرب العالمية الثانية، نتيجة وقوف تركيا إلى جانب الحلفاء، وتقاربها الكبير مع الغرب، ثم انضمامها إلى حلف شمال الأطلسي، علاقات متشابكة وبراغماتية بالوقت نفسه، إذ يحرص الطرفان على التعاون المشترك لتحقيق مصالحه. وقد شهدت هذه العلاقة في مرحلة ما توسعاً كبيراً للدعم العسكري الأمريكي لتركيا، بهدف تشكيل خط دفاع لمواجهة ما سمّي بـ”الخطر السوفييتي”، كما عقدت واشنطن عدداً من اتفاقيات الدفاع المشترك مع أنقرة والتزمت بموجبها بتقديم الخدمات العسكرية والمعدات الحربية، بالإضافة للقيام بالتدريبات العسكرية المشتركة، فتركيا ثامن عضو يساهم في ميزانية الحلف الأطلسي بما يصل إلى 90 مليون يورو، كما تستضيف 26 قاعدة عسكرية ومركز رصد وجمع معلومات للحلف، كما تقوم بدور الوكيل له في المنطقة بوجه الوجود الروسي والإيراني، ولهذا منحت الولايات المتحدة الأمريكية الضوء الأخضر للتحرك العسكري التركي في أذربيجان وليبيا، وبذلك تكون واشنطن تمكّنت من إعادة دور تركيا لتكون الراعي لمصالح الولايات المتحدة في المنطقة.

لكن هذه العلاقة شهدت مؤخراً، حالات توتر، وخاصة فيما يتعلق بملفات منطقة الشرق الأوسط، وما سمّي بـ”الربيع العربي”، والاحتلالات العسكرية التركية في سورية، بالإضافة إلى أن أنقرة سارعت لاتهام واشنطن بالوقوف وراء الانقلاب العسكري، في تموز 2016، ولاسيما بعد رفض واشنطن تسليم فتح الله غولن الذي يتهمه النظام بتدبير الانقلاب، وملفات أخرى كصفقة شراء منظومة صواريخ إس 400، عام  2019، والتي وتّرت العلاقات بين واشنطن وأنقرة، فواشنطن وحلف شمال الأطلسي يريان أن شراء منظومة صواريخ روسية يمثل تهديداً صريحاً لأنظمة دفاع الحلف، لذا فرضت الولايات المتحدة في 14 كانون الأول 2020، عقوبات على هيئة الصناعات العسكرية التركية تضمنت حظر أي قروض من المؤسسات المالية الأمريكية، وحظر تراخيص التصدير الأمريكية، كما أعلن البيت الأبيض تعليق مشاركة تركيا في تطوير برنامج مقاتلات إف 35، فضلاً عن إمكانية عدم بيعها لها.

لم يتغيّر الموقف الأمريكي مع قدوم بايدن إلى البيت الأبيض، حيث أعلنت الإدارة الجديدة رغبتها بأن تتخلى تركيا عن صواريخ إس 400، بوصفها حليفاً للولايات المتحدة وحلف شمال الأطلسي، مشيرة إلى أن عودة واشنطن إلى إحياء الحلف ودوره تعني فرض مزيد من العقوبات والمحاسبة على أنقرة نتيجة الصفقة التي أكدت واشنطن منذ البداية أنها تهديد للمنظومة الدفاعية للحلف.

ويمكن القول: إن العلاقات بلغت مؤخراً مستوى كبيراً من التعقيد، وأن الملفات الشائكة تراكمت نتيجة الخلافات المتزايدة في المنظور البراغماتي لكل منهما، وهو ما ينبئ بصعوبة معالجة المشكلات. وعلى الرغم من أن مسؤولين أمريكيين يرون أن هذا الاعتراف سيزيد من تأجيح العلاقات المتوترة أصلاً مع تركيا، ترى صحيفة “النيويورك تايمز” أن الأوضاع الاقتصادية المتردية في تركيا وحاجتها إلى أميركا تجعل الخيارات محدودة أمام أردوغان، وبحسب محللين فإن ردّ فعل تركيا لن يكون سوى جعجعة بلا طحين، فبدون دعم الولايات المتحدة لن تتمكن تركيا من التمتع بامتيازات حلف شمال الأطلسي، ومن دون واشنطن قد تفقد أنقرة العديد من المزايا الأمنية والعسكرية التي تتمتع بها، خاصة وأنه تمّ استبعاد انضمامها للاتحاد الأوربي في السنوات المقبلة، بسبب الوضع السياسي في تركيا، والانتهاكات الفادحة لحقوق الإنسان وسعي حزب العدالة والتنمية الإخواني لتشديد قبضته على وسائل الإعلام والصحافيين والمعارضين بقوانين تعسفية وجائرة، بالإضافة إلى عمليات التطهير الجماعي التي قادتها الحكومة التركية إثر الانقلاب في عام 2016، وفصل مئات الآلاف وسجن آلاف آخرين ممن يشتبه بأنهم من أنصار غولن. وكان الاتحاد الأوروبي ونشطاء حقوق الإنسان وصفوا عملية التطهير هذه بأنها انقضاض على المعارضين السياسيين، ما يقوّض مناخ الحريات وسيادة القانون، وكل ذلك يضاف إلى السياسة التي يتبعها أردوغان منذ سنوات، في توظيف ورقة اللاجئين لفرض تصوّرات أنقرة على الدول الأوروبية، ما يخلق الإجماع لدى جلّ المتابعين لعقدين من حكم أردوغان في تركيا بأنه آخر من يحق له التبجح بحقوق الإنسان، خاصة وأن أنقرة متورطة في السنوات الأخيرة بالكثير من الملفات الداخلية أو الخارجية المثقلة بانتهاكات حقوق الإنسان.

ماذا يعني الاعتراف بالنسبة للأرمن؟

بحسب متابعين للشأن التركي، فقد دفعت الحكومة التركية ملايين الدولارات من أجل ممارسة ضغط سياسي في واشنطن في العشر سنوات الماضية، وكان الكثير مما دفع يتركز على قضية الإبادة الأرمنية.

وفي هذا الإطار، اتهمت تقارير تركيا بمحاولة تهديد وإسكات الصحفيين الاستقصائيين والباحثين في مجال الإبادة الجماعية، كما قامت في الماضي بتهديد السياسيين في الدول الأخرى بالقصاص الشديد لكي تمنعهم من أن يستعملوا كلمة إبادة جماعية.

ووصف السفير الأرميني لدى الولايات المتحدة فاروزان نرسيسيان خطوة الاعتراف بأنها “رسالة إيجابية للغاية وقوية للعلوم الإنسانية فيما يتعلق بمنع الإبادة الجماعية في المستقبل”، وقال لشبكة “سي إن إن”: هذه اللحظة تعني لي الكثير، لكوني ابناً يأتي من جيل الناجين من الإبادة الجماعية، بالنسبة لشعب أرمينيا والجاليات الأرمنية في جميع أنحاء العالم، فإن هذا يعني نهاية تاريخ طويل من الإنكار، وهذا يعني لي شخصياً أن العدالة ستنتصر، وستنتصر الإنسانية”.