مجلة البعث الأسبوعية

صناعة البطل

“البعث الأسبوعية” ــ رامز حاج حسين

بات واضحاً أن صناعة القدوة والبطل الملهم ركن أساسي ومفصلي في ثقافة الأطفال، المقروءة والمسموعة والمرئية، وكل ما يمت لهذه الثقافة من متطلبات وأقنية تصريف للأعمال الإبداعية لدى الأمم والشعوب، وقد يضطر شعب ما إلى اختراع بطله الخاص بالقصص والحكايات والسيرة الشعبية من الخيال ونسج أبعاد الميلاد والمنشأ والصلات برحم تلك الأرض ليكون مقنعاً لأفئدة الصغار وعقولهم.

في وطني لا نحتاج لاختلاق الأبطال، ولا سيرهم، ولسنا بحاجة إلى الكذب المباح في تطويع الخيال لصالح الحكاية وبطلها، فكل من على هذه الأرض منسوج من رحم بطولة، ولدينا في كل بيت وشارع وحارة وقرية ومدينة نماذج يمكن أن تكون أبطالاً لحكايات الأطفال.

 

الأب البطل

انظر حولك ملياً ستجد بطولة للأب السوري العامل والفلاح والجندي والطبيب والمعلم؛ وفي كل وجه لأوجه البطولة ستجد قصصاً وعِبَر قد تكون نواة لفكرة لامعة لقصة للأطفال. قالت لي مديرة المركز الثقافي في أبو رمانة، رباب أحمد: إن والدي لم يترك لنا إرثاً مادياً وأخلاقياً فقط، بل ترك لنا إرثاً كبيراً ما زال يتجدد كلما صادفت أحد معاصريه، أو من كانت له معه تجربة بسيطة، أو مساعدة ما، أو حوار كان بينهما، ليسرد لي حكاية تلهب مخيلتي وتثير شجوني وعاطفة الحب في قلبي تجاه والدي الراحل، ليس لأنه كان وزير الإعلام السابق، ولكن لتجاربه الإنسانية مع هؤلاء الناس مع تنوع مشاربهم، وتنوع معطيات الحكاية الخاصة بكل واحد منهم مع والدي، والدي يعتبر بالنسبة لي البطل الذي كنت أقرأ عنه في الحكايات دائماً.

الأب يمكن أن يكون قدوة لأطفاله وأسرته. ويمكن لحكاية مشرقة ما، لتضحية قام بها، أو عمل بطولي مميز اجترحه من قلب معجزات هذه الأرض، أن يكون كفيلاً بجعله بطل حكاية لأطفالنا، فكمية التضحيات في زمن الأزمات أعظم من أن تحصى بجداول وأرقام.. دعك من المستسلمين للشكوى والمتقاعسين عن العمل بحجة وعثاء السفر، فقدر هذه الأرض أن تبقى واقفة كالفينيق الذي يفضل ذرى أشجارها ليبني أعشاش تفريخه كل عصر وحين.

ومن ها هنا، ما حجة المتلطين وراء الاقتباس والسرقات والاقتباسات العالمية، وحكايات بقية الأمم والشعوب، ونحن لدينا آلاف الحكايات منثورة على قارعة طريق الإبداع، هنا وهناك: هناك من يعمل بصمت القديسين لنحيا حياة كريمة، يحرث أرضه هناك، أو يوصل أسلاك الكهرباء، أو ينظف شوارعنا ومدننا، أو يدافع عن الحمى، وقد ينسى في غمرة فعله المتلاحق ذاك نفسه، ومتع الحياة، ولكنه أبداً لا يلتفت لانتظار كلمة تكريم أو وسام ثناء، لأن العمل وحده، وما يقوم به، هو جل ما يريد، ومن هذه النمذجة تخرج للوجود قصص تليق بان تكون ثقافة أطفالنا بطريقة خلابة.

يقول إدواردو غاليانو، الكاتب الأورغوياني: عاشت المدينة البوليفية لالاغوا معتمدة على المنجم، حيث كان العمال يتوفون فيه جراء مطاردتهم عروق القصدير في عمق الجبال، يسبب خسارتهم لرئاتهم، ومن ثم حيواتهم؛ وبما أنني قضيت بعض الوقت هناك، وكونت صداقات جيدة، حدث معي أنه في إحدى الليالي كنا نشرب أنا وأصدقائي ونتبادل النكات ونمرح حتى وقت السحر؛ وإذ بقي القليل على عاصفة الصفارات التي تدعوهم إلى العمل، صمت أصدقائي كلهم في وقت واحد، ثم طلب مني أحدهم وربما كان تصريحاً منه أو أمراً يجب تنفيذه بآن: والآن يا أخي، حدثنا عن البحر”. لبثت صامتاً هنيهة، فأصروا جميعاً: “حدثنا، حدثنا عن البحر”. كان ذلك هو التحدي الأصعب طوال حياتي القصصية، فبين عمال المناجم هؤلاء، من لا يعرف البحر مطلقاً، فقد كان الموت في سن الشباب قدرهم جميعاً، ولم يكن لدي أمام إصرارهم ورغبتهم العارمة إلا أن آخذهم إلى البحر البعيد جداً، وأن أجهد لأجد الكلمات التي من شانها أن تبللهم حتى النخاع.

يمضي الأب السوري الأسطوري أيامه وهو ينحت جدران الزمن ليقيم لعائلته بنيان الحياة الكريمة؛ فلنبحث في محيط كل مبدع فينا عن تجارب تليق بتحويلها لقصص، والقصص بتحويلها لكتاب، والكتاب يتحول إلى فيلم فيما بعد؛ ولنبحث عن مسابقات للقصة والسيناريو والقصيدة تتغنى بقصص حقيقية وتوثقها بطريقة فنية.. وهل الفن والإبداع إلا عين خبير واع يترجم الحياة من منظوره، ويصبها في قوالب من الجمال، لتكون مستساغة لذائقة المتلقي؟!

والمنجم المفتوح يدعوكم.

كم نسمع عن تكريم لخنساء في هذا العصر، وعن أب كيعقوب في الإيمان والأمل؛ وكم مرّ على هذه الأرض من قصص وسير لأبطال عاشوا، وبذلوا كل صنوف الكرم في إبراز الهوية الحضارية والأخلاقية لهذا الوطن.

وفي عودة لمقدمة هذا الكلام، فإننا نلحظ أن العديد من الأمم تتبارى في عملية تصنيع البطل القدوة، وتلميع حكايته لتكون شعلة على طريق الأجيال، وباتت فكرة الغوص في التاريخ ونسج سيناريو يتناسب مع متطلبات المرحلة، وتقديم البطل بما يليق ورغبات فتيانها أمراً رئيسياً في صناعة الثقافة.

أما نحن، فلسنا بحاجة إلا لإرادة فعل ذلك، ولسنا بحاجة إلى طول بحث ومشقة وعناء في إيجاد الأبطال السوريين وقصصهم، لأن أبطال سورية ورموز حكاياتها هم الذين يصنعوننا كل يوم.

 

اعتراف بالهزيمة لإعادة تنظيم الأفكار

بعدد المقالات التي كتبت، وفي كل محفل ولقاء وتجمع، هتفت بضرورة الوعي لإيجاد بدائل لأطفالنا عن الأنموذج الأمريكي البطل المفرد، وراعي البقر المخلّص الأوحد للعالم، ورموزه المتجددة كل حين في الرجل العنكبوت “سبيدرمان”، وكابتن أميركا وسوبرمان وغيرهم؛ وكان الخوف أن تذهب النداءات أدراج الريح، وأن دائرة العنف والخرافة والجنس نفسها التي ضربت أول الأزمة السورية ما زالت عجلاتها تدور، ورحاها غير معطلة، وإن دارت ببطء، لكنها ما زالت تخبئ جيلاً يتربى على العنف والانسلاخ عن أخلاقيات هذه الأرض.. رجعت إلى منزلي بعد يوم طويل، وقد تقاضيت ثمن مقال لي في مجلة “البعث الأسبوعية” عن ضرورة الحيطة والحذر لأجل ثقافة بديلة لأطفالنا عن النمذجة الأمريكية. اتصلت بطفلي ذي السنوات الثلاث، وطلبت أن يخبرني ما يريد أن أشتري له، فأجابني من الطرف الآخر للهاتف: أريد لعبة سوبرمان!!

وانتهى المقال.