مجلة البعث الأسبوعية

من يمنع تحويل سيارات الأجرة إلى سرافيس ومن لا يريد حل أزمة النقل؟ الحلول متاحة وكثيرة.. والجهات المعنية تحابي السائقين وما من جهة حكومية جادة بالحل!! 

“البعث الأسبوعية” ــ علي عبود

من المؤسف أن أزمة النقل لم تحظ باهتمام أي حكومة منذ مطلع ثمانينيات القرن الماضي، وكان الحل الوحيد دائماً هو استيراد الباصات أو السرفيسات “الذبابة البيضاء”، ومع ذلك لم تكن الآليات المستوردة كافية لحل أزمة النقل.

وكان ملفتاً قيام وزارة النقل، منذ أربعة عقود تقريباً، بطرح مشروع “مترو دمشق” بالتزامن مع بدء مصر بتنفيذ مشروع مترو القاهرة، ومع أن المشروع طُرح مراراً على طاولة الجهات الحكومية، وفي فترات متباعدة، لكن ما من حكومة كانت جادة بأكثر من مناقشته بعنوانه العريض فقط.

ولجأت جميع الحكومات منذ تسعينيات القرن الماضي إلى الحل السهل، وهو الترويج لاستيراد ألف باص لم يتم استيرادها دفعة واحدة، وإنما على دفعات متباعدة استغرقت أكثر من عشرين عاماً. ومع أن هذا الحل لم “يحلحل” الأزمة، بل فاقمها أكثر فأكثر، فإن ما من جهة حكومية كانت جادة بحلها، سواء باستثمار ما هو متاح من إمكانيات، كمشروع “التاكسي سرفيس” في دمشق، أو السكك الحديدية، أو القبول بالعروض المقدمة من دول صديقة أو من دول أوروبية لتنفيذ مشروع المترو بأسلوب الـ “BOT”، أي دون أن يكبد خزينة الدولة قرشاً واحداً؛ وعلى مدى ثلاثة عقود، كانت هناك مشاريع متطورة لحل الأزمة، كان آخرها من الصين ولكن لم يُبت بها لأسباب غير معلنة.

كل ذلك يؤكد بأن أزمة النقل إلى تفاقم، أو إلى “حلحلات” آنية ومؤقتة في أحسن الأحوال، فما من حكومة كانت حتى الآن جادة بحل أزمة النقل جذرياً، وهي الأزمة التي تستنزف دخل ملايين السوريين، وتهدر وقتهم، وتُعرّضهم لإذلال يومي على الطرقات؛ فهل الجهات الحكومية عاجزة فعلاً عن حل أزمة النقل، أم أنها لا تريد حلها؟

ولعل السؤال الأكثر دقة: من لا يريد حل أزمة النقل؟

 

الحلول المتاحة كثيرة

نتابع منذ أشهر تفاقم أزمة النقل مع كل نقص في إمدادات المحروقات أو زيادة بأسعارها، وهذا متوقع مع غياب الوسائط الكافية للنقل العام في جميع المحافظات؛ ومع اشتداد حدة الأزمة، نسأل مرة أخرى: هل نحن أمام أزمة مستعصية، أم هناك جهات لا تريد حلها؟

لو استعرضنا الإمكانيات المتاحة، ولو نظرياً، لاكتشفنا الحلول التالية:

– حل سريع ومباشر: تنفيذ مشروع “التاكسي سرفيس”، وبخاصة في محافظة دمشق والمدن والبلدات الملاصقة لها والتابعة إدارياً لمحافظة ريف دمشق.

– حل آني وسريع أيضاً: استثمار السكك الحديدية للنقل بعد تجهيزها لنقل المواطنين بين المدن، وقد أثبتت فعاليتها النسبية بين محافظتي طرطوس واللاذقية.

– حل قريب المدى: استيراد الباصات من دولة صديقة أو حليفة، ولكن يبدو هذا الخيار غير وارد منذ سنوات؛ وفي السنوات الذي طُبق فيها استوردنا باصات قليلة لم تحدث فارقاً في حل الأزمة.

– حل متوسط المدى: إقامة شراكة مع شركة متخصصة تتبع لدولة صديقة أو حليفة، على قانون الاستثمار، تتيح تصنيع الباصات في سورية بما يكفي حاجتها وتصدير الفائض، وهذا الحل لم يُطرح سابقاً ولا حالياً، ولا ندري لماذا؟

– حل بعيد المدى وجذري: إقامة مترو في مدينتي دمشق وحلب، وهذا الحل متداول منذ ثمانينيات القرن الماضي، لكن ما من حكومة اتخذت قراراً جريئاً بإقامة المترو على الرغم من أنه لا يُحمّل خزينة الدولة قرشاً واحداً، لأن الجهات العارضة تنفذه على حسابها، وتسترد التكلفة خلال عدد محدد من سنوات التشغيل، والسؤال: لماذا خيار المترو لا يزال مستبعداً منذ أربع عقود؟

– حل مستقبلي تقدمت به شركة صينية متخصصة منذ أشهر تكفلت بتنفيذ وتمويل واستثمار مشروع النقل بقطارات الضواحي الكهربائية بين دمشق وريفها، والسؤال: هل ستوافق وزارة النقل على المشروع الصيني، أم سيبقى عرضاً بلا رد؟

 

تردد منذ سنوات

وليس المطلوب من الحكومة دائماً إيجاد الحلول لأزمة النقل، إلا إذا كان الأمر يتعلق برصد الاعتمادات أو الموافقة على عروض خارجية. وبإمكان الإدارة المحلية في كل محافظة أن تبتكر حلولاً لأزمة النقل، وليس المهم هنا أن تقتنع جهة معنية بحل جذري لأزمة النقل، فالأهم أن تترجم اقتناعها إلى فعل.

محافظة دمشق، مثلاً، اقتنعت منذ سنوات أن تحويل سيارات الأجرة إلى سرافيس يساهم في حل أزمة النقل، لكنها لم تترجم اقتناعها إلى فعل حتى الآن، بل يبدو أنها تخلت عن مشروعها الورقي نهائياً؛

وبدلاً من أن تُلزم أصحاب سيارات الأجرة بالعمل في منظومة “تاكسي سرفيس”، فإنها مشغولة بعد رفع أسعار المحروقات بتعديل عدادات التاكسي، وكأنّ أصحابها يلتزمون بأي تعرفة مهما كانت منصفة؛

وبما أن قطاع النقل في المحافظة يقول أن هناك 35 ألف سيارة أجرة، فهذا يعني أننا أمام فرصة لدعم النقل العام بما لا يقل عن 3000 باص، دون أن نستورد باصاً واحداً.

والسؤال مرة جديدة: من يمنع تحويل سيارات الأجرة إلى سرافيس؟

وبدقة أكثر: من لا يريد حل أزمة النقل؟

مسلسل التراجع عن التنفيذ بدأ منذ العام 2017، وهو يؤكد أن الشغل الشاغل في موضوع حل أزمة النقل كان محاباة 35 ألف سائق سيارة أجرة، والاستخفاف بمعاناة ملايين المواطنين.

ويعود التخطيط لمنظومة “التاكسي سرفيس” إلى العام 2015، عندما أعد قطاع النقل في محافظة دمشق دراسة لتشغيل المنظومة، وقد تم الطلب من أصحاب السيارات العامة التسجيل بشكل طوعي، ولكن لم يتقدّم أحد بذريعة انخفاض تعرفة الركوب.

وبتاريخ 4/ 8/ 2017 أطلقت محافظة دمشق منظومة “تاكسي سرفيس” بعد وضع تعرفة الركوب لخمسة خطوط داخل دمشق، حيث تم تحديد اتوستراد المزة – كلية الهندسة الميكانيكية والكهربائية على طريق المطار، خط الدويلعة – ساحة مشفى المواساة، خط جرمانا – ساحة مشفى المواساة، خط مشروع دمر – جسر فيكتوريا، كما تم وضع تعرفة الركوب بـ200 ليرة للراكب الواحد على امتداد الخط الخامس الذي يمتد ما بين منطقة كفرسوسة والجمارك، وحدّدت المحافظة المبلغ الذي سيتم استيفاؤه كبديل لتسجيل السيارة في المنظومة بـ8000 ليرة، يضاف إليها الرسوم والطوابع الواجب تحصيلها، وتم تكليف مديرية هندسة المرور والنقل استيفاء بدل التسجيل لهذه المنظومة.

لكن المشروع لم ينفذ وبقي حبراً على ورق.

والملفت أن مجلس محافظة دمشق يناقش دائماً في جلساته الدورية أزمة النقل، لكن ما من مرة قرر تنفيذ أي حل كمشروع “التاكسي سرفيس” مثلاً. ومنذ عام 2017، أكد المجلس أن مدينة دمشق تحتاج إلى 2000 باص داخلي لا يتوافر منها سوى 320 باصاً، منها 120 باصاً فقط لشركة النقل الداخلي.

ونتوقع أن عضواً، أو أكثر، من قطاع النقل في المحافظة، أجرى حسبة سهلة اكتشف فيها أن مشروع “التاكسي سرفيس” يوفر طاقة نقلية تعادل أكثر من 3200 باص، وليس 2000 باص فقط.. فماذا كانت النتيجة؟

المحافظة لا تزال تهدر هذه الطاقة، لأنها رضخت لمطالب السائقين.

 

إمكانية كبيرة مهدورة

لقد كشفت محافظة دمشق أن سيارات الأجرة الصفراء العاملة في دمشق وضواحيها لا تقل عن 35 ألف سيارة، وهذا يعني أننا أمام إمكانيات كبيرة جداً مهدورة، لأن المحافظة لا تزال بانتظار موافقة السائقين على مشروعها، منذ العام 2017. وإذا كانت السيارة الواحدة تنقل 4 ركاب فهذا يعني أن الـ 35 ألف سيارة أجرة تنقل 140 ألف راكب في السفرة الواحدة. وإذا كان الباص ينقل 60 راكباً بالراحة فهذا يعني أن طاقة مشروع التاكسي سرفيس تعادل 2333 باصاً، أي كأنّ الحكومة استوردت هذه الكمية من الباصات مجاناً وزجتها في العمل. وعلى الرغم من هذه الإمكانية الكبيرة المتاحة لحل أزمة النقل في دمشق وضواحيها فإن المحافظة تتردد في تنفيذها حتى الآن.. فلماذا؟

الملفت إن وزارة الإدارة المحلية – المعنية مباشرة بحل أزمة النقل – لم تطلب من محافظتي دمشق وريفها وضع آليات لتنفيذ مشروع “التاكسي سرفيس”، كما أن الحكومة، منذ عام 2017، لم تناقش المشروع، ولم تطلب من أي محافظة تنفيذه!!

وبرأينا، الذي كررناه مراراً، فإن مشروع “التاكسي سرفيس” لن ينفذ بالتراضي بين المحافظة والسائقين، بل بالإلزام، أي بمنع سيارات الأجرة الصفراء من العمل كـ “تاكسي”. وبدلاً من أن تنشغل الجهات الحكومية بتصنيع العدادات، أو بتعديلها مع كل زيادة بأسعار المحروقات، لـتلغ الحكومة العدادات التي لا يلتزم بها السائقون، وتلزمهم بالعمل في “التاكسي سرفيس”.

وتبرر المحافظة تقصيرها بإلزام السائقين بالتعرفة عدم وجود شكاوى من المواطنين، مع أن الأمر لا يحتاج إلى أكثر من قيام أعضاء المكتب التنفيذي بتخصيص يوم واحد فقط لاستخدام التاكسيات من قبلهم لاكتشاف جسامة المخالفات، وليعلنوا بعدها عن سيارة واحدة تلتزم بالتعرفة، أو تحترم المواطن الذي لا يسدد ما يطلبه صاحبها!!

ولعل الكلام المكرر والمفيد والوحيد الذي يصدر عن لجنة النقل هو إن أفضل طريقة لحل الأزمة تخصيص عدد كبير من سيارات التاكسي على خط “تاكسي سرفيس”، وهو فعلاً كلام مفيد، لكنه مجرد كلام لم يتحول إلى قرار تنفيذي؛ فما الذي يمنع المحافظة من إلزام أصحاب سيارات التاكسي العاملة في دمشق أن تعمل في منظومة “التاكسي سرفيس”؟ وإذا كان بعضهم غير متفرغ – حسبما أعلنت اللجنة – فلتسحب الرخصة منه، أو ليؤجرها لمن يحتاج إلى عمل!!

 

بداية متواضعة مع وقف التنفيذ

لقد تفاءلنا، نهاية كانون الأول الماضي، بإعلان محافظة دمشق أنها ستبدأ بتنفيذ مشروع “التاكسي سرفيس” بعد تردد استغرق خمس سنوات؛ وسبب تفاؤلنا كان مبرراً بصدور قرار بإنشاء سبعة خطوط لمشروع سيارات “التاكسي سرفيس” ضمن مناطق محددة في دمشق وريفها بتعرفة موحدة تم إقرارها من المكتب التنفيذي في المحافظة، وتبلغ قيمتها ما بين 300 و400 للراكب الواحد.

وجزم عضو المكتب التنفيذي لقطاع النقل والمواصلات في محافظة دمشق، حينها، أن “المشروع سيبصر النور بشكل فعلي خلال 20 يوماً، بعد إنجاز كل الإجراءات اللازمة والموافقات بخصوص عمل السيارات ضمن خطوط محددة، مع وجود دراسة توصيفية كاملة للعمل، مع لحظ جميع التفاصيل المحيطة بتطبيق المشروع وذلك ضمن مراحل يتم من خلالها تقييم العمل”.
ومع إن البداية – كما أعلن عنها – متواضعة جداً، وتقتصر على 100 سيارة كان يفترض أن تقوم بتخديم مناطق كفرسوسة وكلية “الهمك” والدويلعة وباب شرقي وجرمانا والجزيرتين 16 و24 بمشروع دمر، فإنها لم تنفذ حتى الآن!! والملفت أن المشروع أعجب بعض أصحاب سيارات الأجرة، فنفذوه على طريقتهم لتخديم عدد من بلدات ومدن ريف دمشق، وأقاموا تجمعاً للتاكسيات في مراكز انطلاق معروفة من قبل المواطنين، وتتراوح تعرفة الراكب الواحد من ألف إلى خمسة آلاف ليرة، وأحياناً أكثر، حسب المنطقة.

 

تطبيق لنقل الركاب

وأمام تقاعس الجهات المعنية عن استثمار الإمكانات المتاحة، بادرت مديرية النقل الطرقي في وزارة النقل بتنفيذ قانون التطبيق الإلكتروني بهدف المساهمة في توفير وسائل النقل للمواطنين من خلال أجهزة الموبايل، حيث ستقوم شركات خاصة مرخصة وفق القانون بإنشاء تطبيقات تتيح لأصحاب السيارات الخاصة السياحية والميكروباصات الخاصة، التي لا يزيد عدد الركاب فيها عن 10 ركاب، الاشتراك في هذا التطبيق، وتقديم خدمة النقل ضمن المدن وبين المدن الأخرى.

 ويضع صاحب السيارة الخاصة الذي يقدم الخدمة على التطبيق أنه سينطلق من نقطة محددة، وفق طريق محدد، ويستطيع أي راكب يستفيد من خط سير هذه المركبة أن يرسل طلباً يبدي فيه رغبته في الخدمة، ويعلن صاحب المركبة الأجرة التي سيتقاضاها من الراكب، وفي حال أبدى الراكب الموافقة تنفذ الخدمة.

 

ما مصير العرض الصيني؟

لقد مضى أكثر من خمسة أشهر على تقديم عرض صيني لحل أزمة النقل في ضواحي دمشق، ومع ذلك لم نسمع جديداً، تماماً مثلما حدث مع عروض أخرى لحل أزمة النقل جذرياً، كالمترو.

ونستنتج بسهولة أن الحكومة لن ترصد قرشاً واحداً لهذا المشروع المغري، فالشركة الصينية تكفلت بالتنفيذ والتمويل والاستثمار، وهذا ما تفعله جميع الشركات العالمية التي تنفذ مشاريع المترو أيضاً. وقد عرفنا حينها أن مؤسسة الخط الحديدي الحجازي تدرس هذا العرض “حالياً”، أي منذ أكثر من خمسة أشهر. وبحسب المؤسسة، يعتبر هذا المشروع الصديق للبيئة من أهم الحلول لأزمة النقل في مدينة دمشق وضواحيها.

حسناً.. بما أن المشروع بهذه الأهمية، هل رفعت مؤسسة الخط الحديدي الحجازي مذكرة لرئاسة الحكومة تتضمن الاقتراح بالموافقة على العرض الصيني، أم أن مصيره سيكون الأدراج؟