مجلة البعث الأسبوعية

المصادفات الجميلة شهامة الزمن.. أحلام الفن من دون أأظافر.. تخدش وجه الضجر بالدهشة..

حسين عبد الكريم

في الأيّام المجاورة للدَّهشة، والعشق المتهم بالكثير من التردّد والقليل من الجرأة الغرامية.. التقيتُ عند محمد الماغوط بـ إلياس فاضل، قال لي الماغوط: إلياس صديقٌ قديم، يكتبُ شعراً جميلاً!!..

هو فعلاً مثل “مرمريتا” أمِّه الأولى، التي هي من أشواقٍ بريّةٍ وأبدٍ معتّقٍ، في دِنان البقاء، الحاضر في مراهقاتِ الفصول؛ إلياس فاضل طفلٌ رائعٌ، يُحيطُ بقلبه الحبُّ من جميع الجهات.. ليس في وعيه وجهاتُ نظر عدوانية، يُربّي أعصابه البهاء البسيطُ المزدهر.. أحلامه كالينابيع، إذ تكتب دواوين البساتين، ومذكراتِ السهل، لكنَّ أحلام الينابيع والمبدعين من دونِ أظافر.. تُبدع وتنشر، تُوزعُ.. تطبعُ.. الجنونُ في الألفةِ والعاشقات العاليات، والعاشقين.. النبعُ والفنون، ذاكراتٌ ذكية، نبوغٌ الأمزجةِ والمحابر.. تعابيرٌ غير قاصرة، أو بلهاء، يحلو لها ترديدُ ما تسمع، من دون دراية..

بيت إلياس فاضل يبعدُ عن بيت الماغوط عشرات الفواصل والأرصفة، وشروحات شارعين، وساحة بكامل تفرعاتِها، كـ “سترة” مختار القرية، ذاتِ الجيوب العديدة، المليئةِ بالعناوين، والأوراق، والطوابع اللازمة وغير اللازمة..

أيامهما تتقارب وتتباعد.. وتبقى تُداومُ.. جنونُهما من عائلةٍ واحدةٍ.. الألفة البريّة الصارخةِ، في وجه القَفْرِ العاطفي، والعلاقاتِ المسربلةِ، بدلالِ الخدائعِ والمقفرين..

الذين حواسُّهم تستثمرُ في البشاعات الدَّارجة..

أحاديُثهم، كالعضّاتِ، تجيدُ الأذى، وتُخطئُ في الحب.. الفنان عقله، يبدأُ في الجَمال، تتلاقى قناعاته والطفولةُ النبيهة!!.

في عِلية إلياس فاضل غرفته الخاصة، على سطحِ بيته، لوحات.. أقلام مكسورة، ألواحُ روحه، التي وصفها في ديوانه الأخير.. (بقايا اللوح المكسور)..

أشكر محمد الماغوط الصديق الكبير للمجانين الكبار، المبصرين المحبين، أنَّه أهداني صداقة هذا الشاعر، وبقايا لوحه المكسور.. التحيات لـ “ملحق الثورة الثقافي” يجمعني بالأحلام العالية، التي من دون “أظافر” حتى ملحق الثورة بصفحاته الـ 24، 16 صفحة بالأبيض والأسود، و8 صفحات ملونة.. ليسَ له أظافر..

في عليّة إلياس فاضل تعالقتُ.. ولوحتين.. صديقتين:

لوحة “القدس” لـ الفنانُ المرموق إلياس مسوّح، وأيقونة “القديس بطرس في يديه مفاتيح السماء” للفنان جورج عشِّي..

لوحةُ “القدس” ذهبت إلى الصديق الشاعر حسين حمزة، ولم تعدْ، له ولها، وللفنان إلياس الزيات، كلُّ الحبّ والتحيات..

بقيت الصديقة التالية “اللوحة – الأيقونة”.. للصديق جورج عشي، نلتقي، وإياه، في دمشق مقهى االهافانا إلى جوار بردى.. على قارعة حُلم معفّر بالدروب، تُمشّط شعرَه المسافات..

***

 

الحياةُ لوحاتٌ فنيّةٌ، ترثُ الحبَّ عن الحبَّ، أو “ألواحٌ مكسورة، ترثُها بقاياها”، كما هي الحال عند الشاعر إلياس فاضل..

وراثاتٌ تعيشُ في أعصابِ الأيام، تُداومُ، ولا تعقُّ الحنين، أو تتّهمُ شجراتِ العواطف بالعيوب ومراهقة الأغصان والأجنحة وأمزجة العواصف..

الإبداعُ يكسرُ جسد الغياب بالحضور المؤثِّر ومفارقات الزمن الإنساني الرشيق..

كثيرةٌ هي الأزمنة الركيكةُ، المتراكمةُ، تُؤوي الغياب، تُباغتُ بالقطيعة.. تتعاون ولحظةَ الانكسار، في مواجهة الآمال الطفلة..

التأملات تعيشُ وتكبرُ في بيوت اللحظاتِ المقدامةِ.. تُبدعُ الرونق، في الشّقاءات، تُحاورُ الهمومَ، لا لتثقَ بها، بل لتحتمي منها..

يُحاول استرجاع اللوحة.. شراءَها.. أو المقايضة عليها، بأختها.. أو صديقتها.. يقول لي: هي من مواليد السبعينيات من القرن الماضي.. ليسَ عندي ألوانٌ كألوانها، ولا يُمكنني خلقها مرَّةً ثانيةً..

أقولُ لك أيّها الصديق الحميم: الفنُّ وِرطة شهمةٌ عزيزة..!!

تلّذْذٌ بالبحثِ عن البروق المعتّقةِ في أفكار البقاء..

كمؤونةِ حكيٍ عذبٍ، في بال غابة، لا تبخل على الرعاة بقناعات الغيوم وأخلاق المطر..

أحلامٌ من دون أظافر.. تشفعُ للأحزانِ بعافيةِ التأملِ..

تخدشُ وجهَ الضجر بالدَّهشة.. تُداوي بالتأملات الأحزان الهرمة

العواطف الحلوة لا يمكنُ تقنينُها، أو التقشّفُ بها..

نحبُّ صراحةَ الكحلِ، في امرأةِ،.. نتأثّرُ بمشاغبةِ البردِ، في حضرةِ نسمة..

تنتظر أمنية رصينة..

هذه التوهجات تبقى تحيا.. في الحزن والفرح.. تُداوم، كآنساتِ الصفوف الابتدائية، لابدَّ أنَّهن يجئن إلى المدرسة، يُرتّبن دروسَ الحساب، وأوجاعَ الهمزات، في حالاتِ السكون، والحركات.. والوصل.. وأعذار القطع والجزم.. طبعاً الآنسات يبتعدن ما أمكنهنَّ عن الخفضِ ومزاجِ ا لكسرات.. يقلنُ على مسمع أجسادهنِّ الجميلةِ: الحروف العاطفة، صديقة الأنوثة، أكثر من أيّةِ حروف، تُفكِّرُ بالمشاغبة على العطف!!..

المصادفات الحلوة شهامة الزمن.. تتكرّرُ لقاءاتي بالكبيرين محمد الماغوط الذي يقول لي في أكثر من حوار، ولقاء، سلمية أمّي الأولى، التي من تراب.. أمي التالية، دمشق.. وبيروت أمٌّ وحبيبه..

لا أستطيعُ الفلات من دمشق..

في السنوات الأخيرة، يزداد تفكير الماغوط بأمِّه الأولى “سلمية” يتمنى زيارتها ومصافحة طفولته، وبقايا الأيام.. يُرسل لأخيه المال لترميم البيت القديم، أو إنشاء بيت جديد، لكنه يذهبُ في الغيابِ المباغتِ، ولا يزورُ أمَّه الأولى إلَّا في الرحيل الأخير.

فعلها إلياس فاضل مع أمه “مرمريتا”، ظلَّ يكتبها.. تتسلّل إلى محبرته، تنهضُ في لهيبه، كالفينيق الذي لا يتوقّفُ عن الولادة.. في صوتِ الماغوط بُحةٌ خشنةٌ، كغناء الرِّيح في أعراس البادية.. يذكرُ هذه الحالة الوجدية، بين أمه وصوبّه، في قصيدته “سلمية”..

في حياة إلياس فاضل تتراقصُ عريشةُ العناقيد في شبابِ روحه، ودنان وقته السارح في الأحزان المكسورة..

يبحثُ عن شقاء الدروب والمفارق والخطوات، أسأله في كلِّ مرة: ماذا عن حبيبتك.. الأم الغالية مرمريتا؟!

يجيب: أفكِّرُ أن أبني بيتاً صغيراً، يُؤوي آخرة اللوح المكسور، يحتفي بالـ “بقايا” غير المكسوة.. أخي، عنده بيتٌ جميل، أستريحُ فيه.. أتنفّسُ هواءَ الكروم.. أشربُ والحبرَ أنخابَ الأشواقِ، أحكي والعرائشَ، عن مخاضِ العنقود وتعتيق آهات الأعمار الآتية..

في محابرِ الشعر، لا ينامُ جنون الكتابة.. يُصرُّ الحبر على الحداثةِ.. لا يتقاعد كالموظفين، مراقبي الدوام، يهدرون وعي الوقت، في مراقبة من حضر، ومن غاب، الفطرة موظفة قد لا تتقاعد..

عيون العشاق والفنانين المتورطين بالحبِّ واللهفة النضيرة لا تهدأ نظراتُها.. تتحامى بلذة النظرة البعيدة.. ليست موظفة عند دوام يتقاضى الحسراتِ تعويضاً عن أحزان الآخرين!!..

ننظر إلى البعيد الجميل كي نكون جميلين.. وللنساء عيونٌ جديرةٌ بالنظر الجميل والرسائل المشتاقة.. عينان عاشقتان، تُؤلفان ديواناً حداثوياً ليسَ فيه كلمة أو حروفٌ، أو عواطفُ، أو تأويلاتٌ شعريةٌ، أو عشقية، سوى من العينين الأستاذتين في فنون النظرات!!

الأنوثة المبدعة تستوحي من قواميس الحرائق مفردات اللهيب.. يُبدعُ دلالاتٍ جديدة، في كروم المشتاقين.. أغصانُ عاشق تتلقّى معلوماتها الأولى، في مدرسة الأنوثة المبدعة.. في آتي الأشواق، تصيرُ الأغصانُ أستاذةٌ، في دروسِ الآفاق، وملاحظات اللهفات وبلاغة العهود الحلوة..