مجلة البعث الأسبوعية

ما زالت بعيدة عن أسواقنا المحلية الحاجة تتزايد لوجود “بورصة سلع” تكبح جماح الأسعار وتنصف الأطراف جميعاً

“البعث الأسبوعية” ــ أحمد العمار

يشكل غياب بورصة السلع في الأسواق المحلية معضلة كبيرة لجهة الوصول إلى تسعير دقيق لهذه السلعة أو تلك، يوازي، أو على الأقل يقترب، من سعرها العادل في الأسواق العالمية، وهو ما يفسر بعضا من مشهد “فلتان الأسعار”، الذي نراه ونلمسه في هذه الأسواق، وبصرف النظر عن انتشارها جغرافيا ومناطقيا، فالفارق بين سوق محلية وأخرى هو فارق كمي لا نوعي، ولا ينطبق، كما لا يتطابق، مع الأسواق الحرة حول العالم، فما جدوى وجود بورصة خاصة بالسلع، وكيف لها أن تسهم في لجم الأسواق، بعد كل هذا الجموح غير المنطقي وغير المؤطر؟!

 

ليست سوقا مالية

عندما يتداول الأفراد مصطلح “بورصة”، فإن الفهم السريع والجاهز له إنما يتمثل في ذاك الحيز الافتراضي، الذي تباع وتشترى فيه الأوراق المالية، أي الأسهم والسندات وغيرها، لكن عملياً هناك الكثير من البورصات الأخرى التي تتداول صفقات المواد والسلع الرئيسة، وتعرف عادة بـ “بورصة السلع”، وإذا كان حجم التداول في الأولى يقاس بعدد الأوراق التي تبادلها العارضون والطالبون للأسهم، فإنه يقاس في الثانية بعدد الأطنان المسلمة من السكر أو الرز أو النحاس وغيرها..

محليا، لا توجد لدينا مثل هذه البورصة، كما لا يوجد تعاط مع أي من هذه البورصات حول العالم، إلا عندما يتعلق الأمر بالصفقات والبضائع التي يطلبها المستوردون، وذلك بقصد المفاضلة بين أسعارها في البورصات الأوروبية أو الآسيوية مثلا. وهكذا، فإن السعر الذي تباع به السلعة في أسواقنا هو سعر يحدده المستورد، مع إضافة هامش ربح لا يعلمه إلا الله، ثم هو، وقد يصل في بعض الأحيان إلى أضعاف سعرها المتداول في تلك البورصات، ونحن ليس أمامنا إلا الشراء صاغرين!

 

لا ثقة بالتسعير..

لا يبدي متسوقون كثر، ممن استطلعت “البعث الأسبوعية” آراءهم، ثقة بالتسعير الجاري للسلع المستوردة، بل ويؤكد عدد منهم أن أسعار السلع في الأسواق المحلية باتت تفوق، في بعض الأحيان، نظيرتها في أسواق ذات قوة شرائية عالية، كما هو الحال في أسواق لبنان والأردن، وحتى في بعض الأسواق الخليجية، وذلك اعتمادا على حركة أسعار الصرف مقابل العملات الأجنبية والتذبذب الحاصل فيها؛ ويدلل أحدهم على رأيه بأن أسعار السلع لا تنخفض، كما هو معلوم، بالرغم من تحسن سعر صرف الليرة أمام هذه العملات، ما يعني فارقاً كبيراً بين ما يدفعه المستورد وما يبيع به، واختلالاً في الوصول إلى سعر عادل متوازن!

 

.. والمحلية أيضا

ليست مشكلة اختلال التسعير محصورة بالسلع المستوردة وحسب، بل وبالسلع ذات المنشأ المحلي أيضا، حيث تسجل تفاوتاً هائلاً بين سعر أرض الحقل وسعر المبيع النهائي، فمثلاً هناك بعض المنتجات الزراعية التي يبيعها المزارع بمئتي ليرة سورية، ولكن المستهلك النهائي يشتريها بـ 600 أو 800 ليرة، ما يعني زيادة بنسبة 200 أو 300 بالمئة، تضيع في متاهات السمسرة والحلقة الوسيطة في أسواق الهال وخارجها، علماً بأن الفارق المعمول به، حول العالم، يتراوح بين 20 إلى 30 بالمئة، ما يعني أنها يجب أن تباع في مثل هذه الحالة بـ 240 أو 360 ليرة، طبعا مع مراعاة خصوصية كل سلعة زيادة أو نقصاناً، وفقاً لتكاليف معينة قد تحتاجها سلعة دون أخرى، سيما ما يتعلق بعمليات التبريد أو الحفظ أو التعبئة وغيرها..

 

تحفظ..!

بشيء من التحفظ، يتقبل الخبير الاقتصادي، الدكتور علي كنعان، فكرة وجود بورصة للسلع تعمل تحت مظلة وزارة التجارة الداخلية وحماية المستهلك، وتستفيد منها غرف التجارة والصناعة والزراعة بالدرجة الأولى، ويرى أنها بحاجة إلى وجود مستوردين كبار (شركات مساهمة)، لأن الشركات الصغيرة من السهل أن تتملص من التزاماتها، وغالباً لا تستطيع أن تفي بهذه الالتزامات، كما أن العرض في هذه البورصة يعني البيع، وممنوع حبس البضائع واحتكارها.

ووفقا لكنعان، يختفي السعر الاحتكاري لصالح آخر معوم، يجب أن يؤشر على السعر العالمي لهذه السلعة أو تلك بفارق سعري + / – 5%)، فمثلاً إذا كان سعر الطن في البورصات العالمية لسلعة من السلع يساوي 250 دولارا، فإن سعر الكغ الواحد سيكون ربع دولار، وبالتالي فإن السعر النهائي لهذه السلع سيكون على أساس سعر صرف الليرة للدولار الواحد، وبعد إضافة التكاليف وهامش الربح، ليكون هذا السعر معقولاً ومنضبطاً.

كما أن التجار سيكونون أصحاب مصلحة في قيام هذه البورصة، لأنها تضمن أن يكون الجميع بائعاً ورابحاً، خلافاً للوضع الحالي، حيث تعاني الأسواق من احتكار القلة وعمليات تركز تجاري على نحو واضح، فالسلعة الواحدة قد لا يتجاوز عدد مستورديها أصابع اليد الواحدة.

 

التجار غير متحمسين..

لا يبدي عضو غرفة تجارة دمشق، عمار بردان، حماساً لمثل هذه البورصة، ولا يميل إلى أنها قد تسهم في تخفيض أسعار السلع والمواد الأولية، سواء أكانت محلية أم مستوردة:

أولا لأنه درجت العادة أن تركز على المنتج المحلي، ولا توجد في سورية سلع مهمة ومؤثرة تستدعي تسعيرها عبر هذه البورصة؛ فمثلاً هناك بورصة للحديد في بيلاروسيا، وأخرى للشاي في سيريلانكا، علما بأن المنتجين غير ملزمين للبيع عبرها، فهم أحرار بتصريف منتجاتهم بالطريقة التي تروق لهم.

ثانياً، فإن مثل هذه البورصة، في حال إحداثها، لن تنسجم مع القوانين والأنظمة المحلية، فمثلاً الدولة ممثلة بوزارة التجارة الداخلية وحماية المستهلك – مديرية الأسعار – هي من يحدد ويراقب الأسواق عموماً؛ وأيضاً هناك الضرائب والرسوم، فلو أن مستثمراً تعرض لخسائر كبيرة في هذه البورصة، فهل تعفيه وزارة المالية من الضرائب المستحقة عليه؟ وفي حال الطلب الخارجي عبر هذه البورصة والتصدير، ما هي المحددات والقوانين التي تضبط هذا الأمر؟ إضافة للكثير من التساؤلات التي تحتاج أجوبة واضحة، قبل التفكير بمشروع من هذا القبيل.

 

مؤشر “فاو” للمنتجات الزراعية

تؤدي منظمة الأغذية والزراعة الدولية “فاو” دوراً رئيساً في رصد وتحليل ونشر بيانات أسعار الأغذية لقائمة كبيرة من السلع، وذلك بتتبع حركتها وأسعارها من المنتجين إلى المستهلكين من خلال الأسواق المحلية والدولية على السواء.

ويرصد مؤشر أسعار الأغذية في المنظمة التغيرات الشهرية لخمسة مؤشرات للسلع الأساسية و55 عرض أسعار، وتوفر قاعدة البيانات FAOSTAT إمكانية الوصول المجاني إلى بيانات الأغذية والزراعة لأكثر من 245 بلداً وإقليماً، ولحوالي 200 سلعة، فيما تغطي جميع التجمعات الإقليمية للمنظمة منذ عام 1961 إلى آخر عام متاح.

وتستخدم أسعار المنتج الزراعي، إلى جانب بيانات الإنتاج، لتقدير قيمة إنتاج البلدان، حسب السلع، وكذلك كمؤشر لأسعار المنتجين يقيس التضخم في الأسعار؛ كما تُمكّن هذه البيانات المحللين من تحليل نقل وتقلب الأسعار.

 

كثير من هذه البورصات..

تعد بورصة السلع المكان الذي ينظم القواعد والإجراءات الخاصة بعملية التبادل التجاري؛ وقد بدأت بتداول المنتجات الزراعية، حيث كانت ولاية شيكاغو الأميركية هي المركز الرئيس لهذا النوع من التجارة، وحالياً هناك الكثير من هذه البورصات حول العالم، يجري التداول فيها على سلع زراعية مثل القمح وفول الصويا والسكر والقهوة والكوكا والذرة والقطن، وصناعية مثل النفط والغاز الطبيعي ووقود التدفئة والمازوت والنفط الخام والمعادن والبلاستيك والأسمنت وغيرها.. وتؤثر عوامل مختلفة في أدائها، ولكن الأسعار تعتمد بشكل رئيس على العرض والطلب..

إقليمياً، ما زال انتشار مثل هذه البورصات محدوداً، وهناك بورصتان نشطتان في الإمارات وإيران.