الصفحة الاخيرةصحيفة البعث

فورمات

د. نضال الصالح

ما مِن صلة للعلامة اللغوية لهذا الحديث بالدالّ السابق المعروف في علم الكيمياء بالأملاح المُعدَّلة، كفورمات الأمونيوم وفورمات البوتاسيوم، بل بما يمثّل علامة تقنية في الأجهزة الإلكترونية، هي تلك التي تمكّنُ المستخدم من استعادة إعدادات المصنع في حال تعرّض هذه الأجهزة لخلل تقنيّ، أو في حال رغبته في العودة إلى نقطة الصفر لاختيار إعدادات جديدة خاصة به، أو في حال كثرة المشكلات في الجهاز، أو سوى ذلك. وغالباً ما تكون هذه العلامة في نوعين من الأجهزة، الكومبيوتر والهاتف الجوال، لأنهما الأكثر استخداماً في الحياة اليومية من جهة، والأكثر تعرّضاً للتأتأة في الأداء أو العيّ من جهة ثانية.

تعني الكلمة، فورمات، في أصلها الأجنبي: صيغة، أو هيئة، أو نسق، أو.. أمّا العلامة نفسها فملفوظها في العربية هو “الفرمتة”، وتعني: إعادة تهيئة القرص الصلب، أو وحدة التخزين الداخلية للجهاز، لاختيار نظام جديد أو بديل أو إعدادات جديدة، أو استعادة إعدادات الشركة المصنّعة. وثمّة في الكومبيوتر ميزة لا يوفرها الهاتف الجوال في هذا المجال، هي إمكان استعادة الجهاز إلى ما قبل إضافة تالية إلى نظامه في الهيئة الأولى له، كالتحديث على سبيل المثال، أو تحميل برنامج يؤثّر في أداء النظام لهذا السبب أو ذاك.

لقد تمكّنت البشرية منذ وقت مبكّر نسبياً من تاريخها من تحويل هزائم إنسانها الأول أمام ظواهر الطبيعة إلى انتصار تلو آخر في غير شأن، بدءاً من اختراع العجلة فالمحراث، إلى اختراع الكتابة والسفن والساعة والنقود والصفر والبوصلة والكهرباء والهاتف الثابت والكومبيوتر والانترنت والهاتف الجوال، وسوى ذلك ممّا مثّل منعطفات مهمّة في تاريخ العقل البشري الذي أثبتَ كفاءة عالية في تحويل الكثير ممّا كان محض خيال أو تخيّل إلى حقيقة، وأيّ حقيقة!

غير أنّ ما لم يقوَ هذا العقل على إنجازه إلى الآن على الأقلّ هو ما يعني الذاكرة الإنسانية التي يعرّفها علم النفس بأنها إحدى قدرات الدماغ، التي تمكّنه من تخزين المعلومات واسترجاعها، أو يصفها بأنها نظام معالجة معلومات، ولو فعلَ لكان للإنسان، بل لحياته النفسية على نحو أدقّ، شأنها الخلّاق في تحقيق التوازن النفسي الذي تنطوي تحت عباءته، حسب علم النفس أيضاً، معظم المشاعر والأحاسيس الدالّة على الرضا والطمأنينة والسعادة، والدافعية إلى الخلق والابتكار.

لو فعلَ! بل لو تمكّن هذا العقل من اختراع شريحة يمكن ربطها بالخلايا العصبية لمركز الذاكرة في الدماغ، فتمكّن المحظوظ بهذه الشريحة من تنظيم المعلومات في ذاكرته، فأعاد تهيئة “فرمتة” هذه الأخيرة، ولكن على نحو يمكنّه من اصطفاء ما يجب دفنه في مقبرة النسيان، وما يجب أن يبقى بازغاً فيها ومنها، فيكون التوازن، ثمّ تكون الحياة جديرة بالحياة، ومن ذلك على سبيل المثال، والضرورة، السنوات العشر التي مضت من تاريخ سورية.

وبعدُ، وقبلُ، فمن بهيّ ما يؤثر عن الأديبة غادة السمّان قولها: لا تستطيع قتلَ الألم من دون سحق الذاكرة.