الصفحة الاخيرةصحيفة البعث

قصص قصيرة.. نادرة

حسن حميد

لا مشاحة أن الفنون ذرا، وما عدا ذلك فإنها تتساوى في القيمة والمكانة حين تصير تجارب جاذبة للانتباه والدراسة، وقابلة للحوار مع النقد الأدبي ومناهجه، أي حين تكون محتشدة بالحضور الوافي. أما الفنون الذرا فهي النصوص التي غدت سحراً لا تأتي به إلا المواهب الفذة النادرة. من هذه الذرا الفنية العالية جداً في فن القصة القصيرة، التجربة القصصية التي تركها وراءه الكاتب الأمريكي أو. هنري (1962-1910) الذي عاش للقصة القصيرة حوالي ثماني سنوات فقط، كانت كفيلة بأن تجعل صوته القصصي صوتاً أبدياً تعود إليه الدراسات النقدية. سلخ أو. هنري أربعين سنة من عمره، وهو لا يعرف ما يجول في صدره من أحلام، وما تحمله روحه من هموم ومتاعب، فقد كان جلّ ما يبحث عنه هو أن يعيش بهدوء وسلام، وأن يتوافر بين يديه من الأموال ما تكفيه شرور متطلبات الحياة. لم يعش حياة أسرية في طفولته لأن والدته ماتت بمرض السل وهو في الثالثة من عمره، ووالده /الطبيب/ لم ينتبه إليه كما ينبغي، فتاه في دروب الحياة، وانتهى به التعليم المدرسي وهو ابن خمسة عشر عاماً، عمته كانت تدير مدرسة خاصة لذلك شجعته أن يتثقف فقرأ كل ما وصلت إليه يداه من الكتب، وعمه أبعده عن التشرد حين ألحقه بتجارته ليعمل معه في تحضير الأدوية. حاول أن يؤسّس مجلة أسبوعية هزلية لكنه أخفق لأن تكاليف طباعتها باهظة، لذلك عاد ليعمل في بنك، وحين دُققت حساباته وقع في عجز مالي، فطرد وحوكم. منذ عام 1902 وحتى وفاته عام 1910، سيعيش أو. هنري قصة نجاح مذهلة، فقد غدا الاسم القصصي الأول في جميع أنحاء أمريكا، ومن كان يعرف الشهرة في نيويورك سيعرف الشهرة في أمريكا، في هذه السنوات الثماني أصدر أو. هنري تسع مجموعات قصصية، أشرف هو على طباعتها، وبعد وفاته صدرت له ثلاث مجموعات قصصية أخرى. أما موضوعات قصصه فهي بسيطة، وثانوية، ومأخوذة من عوالم المهمّشين والمسحوقين وأصحاب الرجاء أن تصفو الحياة وتبتسم لهم ولو بعد عذاب مرير، إنها موضوعات ساقطة من يد الحياة عفواً أو غفلة، ولكنها، ومن خلال موهبة أو. هنري غدت هي الحياة كلها. إنها قصص الجوع، والتشرد، والازدراء، والاحتقار، والإهمال، والبحث غير المجدي عن سعادة لا تراها العيون ولا تدركها النفوس، وهي قصص الأحلام الصغيرة في وجبة طعام صغيرة، أو ابتسامة رضا فحسب، أو الحصول على عمل بأجر زهيد، أو الظفر بمأوى ولو بين أكياس الخيش داخل قبو أو تحت درج، أو الحلم بأن يمرّ يوم من دون طرد أو نهر أو شتائم، لقد كتب أو. هنري عن القاع الذي تعيش فيه مخلوقات بشرية عاشت الحياة وهي تحلم بالبسيط والعادي ولكنها لم تحصل على شيء سوى الغُصص والآلام.

الروح الفنية الرابخة في قصص أو. هنري تتجلّى في البساطة والسلاسة، والانسياب دعةً نحو نهايات وخواتيم قصصه التي تشبه الزلازل والبراكين، وهي تقف عند المفارقات المذهلة التي لا يمكن للقارئ أن يتوقعها، أو عند تضاد الثنائيات وصراعها حين تتقابل وتتواجه في حضرة أجساد منهكة متعبة، وأرواح عطشى مألومة، وجيوب خاوية صافرة، وقلة حيلة تكاد تصير هي الحياة كلها، والأهم أن قصص أو. هنري تصير، وعلى الرغم مما فيها من مأساوية ومواجع، حزناً يضيء الأرواح كي تواصل الحياة لأن معزوفة الأمل لم تغادرها، فالسقوط، والعثرات، وعدم النجاح، والتوهان، والأحلام الغريبة، والإخفاق في كل شيء، والدروب المهجورة والوعرة، والأمكنة الباردة، وحالات القهر.. كلها هي الموضوعات التي يكتبها أو. هنري، وكأن حياة الثراء، والمال، والجاه، والقصور، والرغد، حياة لا تعنيه أو تلفت انتباهه، لقد عرف حياة الشقاء والإذلال فظنَّ أنها هي الحياة، فظلت أحلام شخوصه القصصية صغيرة ومحدودة، وظلت حياتهم سلسلة من المفارقات والثنائيات العجيبة الغريبة. لم تترجم قصص أو. هنري كلها إلى اللغة العربية، ولكن تُرجم منها ما يشير بحق إلى عظمة هذه الموهبة التي شوتها ظروف الحياة القاسية التي عاشها طوال أربعين سنة، وجلها متاعب جمّة، وأحلام صغيرة لا تعرف الوصول إلى خواتيمها السعيدة.

Hasanhamid55@yahoo.com