مجلة البعث الأسبوعية

بقي مخلصاً للمسرح حتى أيامه الأخيرة.. سعد الدين بقدونس: “هذه مملكتي ولا يمكن أن أتركها”!!

“البعث الأسبوعية” ــ أمينة عباس

لُقّب بشيخ الفنانين السوريين، ولم يكن فناناً عادياً بل كان من الرعيل الأول الذي أسس الحركة الفنية في سورية، وهو رائد من الرواد الأوائل وأول الممثلين بعد الاستقلال.. عمل في التمثيل في أشد فترات المسرح السوري قسوة من حيث الرفض الاجتماعي للفن، وحين اشتهر اسمه في المسرح جاءه عدد من أفراد عائلته وطلبوا منه أن يمحو اسم العائلة لأن ذلك يسيء لكرامتهم، وحينها – كما جاء على لسانه في أحد حواراته – طلب منهم أن يفهموا رسالة المسرح، وأنه ليس “كباريه”، بل هو موجود لتنوير عقول الناس، فلم يوافقوا على كلامه، وخيروه بين تغيير اسم العائلة أو أن يترك هذا العمل، فقال لهم: موافق شرط أن تجدوا لي عملاً أعيش منه، فوافقوا وذهبوا، ولكنهم لم يعودوا.ز بعدها سلك سبيل الفن بشكل جدي في دمشق وبيروت.

 

الهاوي

هوى بقدونس (1924 – 2004) الفن والتمثيل، وهو ابن حيّ الصالحية، وأسس مع رفاقه نادي قاسيون، وكان مغرماً بالسينما فصنع كاميرا من التنك وصبغها باللون الاسود وكتب عليها “قاسيون فيلم”. وفي نهاية الثلاثينيات من القرن الماضي، بدأ حياته في مسارح الأندية الفنية الخاصة التي كانت منتشرة حينها في دمشق، والتي كانت تقدم عروضها في صالات السينما، مثل سينما العباسية (مسرح ٨ اذار الآن)، ومسرح عائدة ومسرح أمير؛ وكان الفنان الهاوي حينها يتبنى المسرحيات الأدبية، أي المسرح الجاد، ومن خلال عناوين المسرحيات التي كان يشارك فيها بقدونس كهاوٍ نستطيع اكتشاف مدى جدية الحركة الفنية الهاوية آنذاك، حيث اشترك من خلال أول نادٍ انتسب إليه، وهو نادي الفنون الجميلة، في مسرحيات “وا معتصماه” و”قيس وليلى” و”وا إسلاماه”، كما عمل مع فرقة الفنان الراحل زهير الشوا في مسرحيات “في بيوت الناس” و”المهراجا”، وشارك بمسرحية “بين العرب والصهونية” مع فرقة ايزيس لنشأت الهرايسي، وساهم في تأسيس فرقة هاوية في حي المهاجرين بدمشق قدمت مجموعة من العروض.

كما عُرف عن بقدونس  أنه كان شديد التأثر بالسينما المصرية، وخير متابع في الأربعينيات للفرق المسرحية المصرية التي كانت تأتي لسورية، مثل فرقة يوسف وهبي، وفرقة أمين عطا الله، وفرقة الطليعة لمحمد توفيق؛ وكان مغرماً في ذلك الزمن بالمسرحيات الكوميدية، حيث شارك مع الفنان الرائد عبد اللطيف فتحي في تقديم عروض مسرحية مستمرة.

 

المجنون

في حوار كان قد أجري معه، بيّن سعد الدين بقدونس أن حركة الهواة في الثلاثينيات والأربعينيات من القرن الماضي كانت حركة جادة تعتمد على ثلاثة موضوعات، هي الوطنية والتاريخية والاجتماعية؛ أما فيما يتعلق بالكوميديا التي غاص فيها كثيراً فقد كانت جادة هي الأخرى، عكس الأعمال التي كانت تقدمها الفرق المصرية التي كانت تأتي لدمشق لتقديم عروضها، ومن خلال عناوين تلك المسرحيات يمكن تبيان ملامحها، حيث اشترك بقدونس بمسرحيات “روميو وجولييت”، و”الأستاذ”، و”المجنون”، و”البخيل”. ووصف بقدونس الفن الهاوي في الثلاثينيات والأربعينيات بالحركة الفنية  الحماسية  حيث  كان الغليان القومي العربي في أوجه، لذلك تبنت الفرق المسرحيات التاريخية التي كانت تعتز بالماضي العربي العريق وبأحداثه وشخوصه، وكان يشرف على حركة الأندية أساتذة أكفياء استلهموا من المجلدات التاريخية مواضيع وأحداثاً واقعية ليقدموا فناً أزعج الاستعمار الفرنسي الذي كان يجثم على صدر سورية.

 

الزباء

من نادي الفنون الجميلة الذي انتسب إليه بقدونس، خرج مبدعون ساهموا في النضال الفني كتوفيق الصباغ وتوفيق العطري وممتاز الركابي وأنور البابا وتيسير السعدي وتوفيق طارق، أما من حيث التوصيف الفني للشكل المسرحي لتلك العروض التي كانت تقدمها تلك الأندية، فإن معظمها كان يقدم باللغة العربية الفصحى بالنسبة للمسرحيات التاريخية والقومية، أما المسرحيات الاجتماعية فقد كانت تقدم بالعامية المهذبة، عدا المسرحيات أو الفصول الكوميدية ضمن الحفلة الواحدة متنوعة الفقرات، في حين كانت مدة تقديم المسرحية الواحدة في تلك الفترة أربعة أيام على الأكثر، وقد كان الريع يذهب إلى مصاريف العرض. وبهذا الشكل، تابع بقدونس شغفه إلى أن ختم حياته الهاوية بإخراج مسرحية “الزباء” في نهاية الأربعينيات، ثم احترف الفن الذي تغير فيه العمل شكلاً ومضموناً، وقد كانت سينما النصر واللونابارك المكانين اللذين يقدم فيهما الأعمال المسرحية التي يقدمها المحترفون.

 

هذه مملكتي

ساهم سعد الدين بقدونس في تأسيس المسرح العسكري في دمشق، في العام 1958، وجمعية المسرح الحر، وكان لوجوده في المسرح العسكري الأثر الطيب على العاملين فيه، فقد كان فناناً كوميدياً كبيراً أحب الناس، والمقاتلين منهم بخاصة، وكانوا الأعز والأقرب إلى قلبه، وهم بدورهم بادلوه هذا الحب بحب كبير، فقد كانت سعادتهم بالغة بإطلالته عليهم من على خشبة المسرح الجوال التابع للمسرح العسكري، متحملاً عناء السفر حباً بالمقاتلين ليرفه عنهم ويمتعهم، وقد ظل يفعل ذلك حتى ما قبل رحيله.

 

خمسة أعوام في لبنان

من المعروف أيضاً أن سعد الدين بقدونس غادر إلى لبنان، عام 1963، حيث عمل في القناة السابعة في تلفزيون لبنان مدة خمسة أعوام، تخللها تأسيسه للمسرح الشعبي هناك، وقدم فيه العديد من المسرحيات التي مهد فيها لظهور الشخصيات الشعبية اللبنانية المعروفة.

 

ضرورة المسرح

مع بداية العام ٢٠٠٠، ساء بقدونس التراجع الذي أصاب المسرح، والذي كان يراه لا يواكب الحياة المعاصرة. وقد كان هذا الأمر محزناً بالنسبة لشخص مثله عاصر المسرح لسنوات طويلة، مع أن الدولة قدمت حينها الكثير إلى الحركة المسرحية الفنية، ودعمت التنظيم النقابي (نقابة الفنانين) بمراسيم وقرارات، وأنشأت المعهد العالي للفنون المسرحية، وأصدرت مجلة خاصة بالمسرح – هي “خدمات” – لم يكن بقدونس وزملاؤه يحلمون بها، ومع هذ كان ثمة ثغرة  تكمن – برأي بقدونس – في أن مسؤولية القائمين على المسرح حينها كانوا غير مدركين لضرورة المسرح في الحياة، إضافة إلى عدم دعم الفنان مادياً، فكان يضطر إلى أن يهرب إلى التلفزيون والسينما، وهو ما ينطبق أيضاً على الكتّاب الذين لا مسرح دونهم. وكان بقدونس مؤمناً أن الاعتماد على النصوص المسرحية الأجنبية لا يسمن ولا يغني من جوع ولا يجلب جمهوراً، وكثيراً ما كان يحذر من الصرعات التجريبية التي كان يقدمها المسرحيون الشباب في تلك الفترة، ويؤكد في حواراته أن المسرح يحتاج للنص الجيد الذي يرينا أنفسنا على الخشبة من خلال ممثل جيد، وأن المسرح يحتاج إلى التعاون والحب والهواية، والوصول إلى الهدف بسرعة لكي يشد الناس إليه، حيث كان مدركاً أن زماننا زمن السرعة، ولابد من اتباع أساليب جديدة للعرض المسرحي؛ أما المسرح الكوميدي فكان – برأيه – بحاجة إلى حادثة طريفة و”كاتب دمه خفيف” وحبكة جميلة، ويُحسب للراحل بقدونس أنه بقي مخلصاً للمسرح حتى أيامه الأخيرة، وكان يقول: “هذه مملكتي ولا يمكن أن أتركها”، ولم يمنعه التقدم في السن من أن يكون من أبرز الوجوه المألوفة في العروض المسرحية.

 

أعمال متنوعة

اقتصرت أدواره في السينما على عدة أفلام، منها: “نزوات امرأة”، “امرأة لا تبيع الحب”، “نور وظلام”، “مقلب حب”، “المخدوعون”، “المصيدة”، “الابتسامة”، “امرأة في الهاوية”، “بلاد العجائب”، “الحسناء والمارد”، “وكان مساء”. أما في التلفزيون، فقد تفرّغ له ولعب على شاشته أدواراً كثيرةً متباينة، وكانت المسلسلات التاريخية هي الأحب إلى قلبه. ومن الأدوار التي كان يعتز بها أدواره في “عودة الزيبق”، “المماليك”، “الأميرة الشماء”، و”يوميات مدير عام”، أما في الإذاعة ففي رصيده الكثير منها، وأهمها مسلسل “يوميات أبو صالح”، من تأليف عماد ياسين وإخراج نذير عقيل.

 

ممثل كوميدي بامتياز

عن والدها الراحل سعد الدين بقدونس، تقول ابنته الفنانة ليلى: كان شغوفاً بعمله، وكان ممثلاً كوميدياً بامتياز، حيث كانت روح الدعابة جزءاً من شخصيته الحقيقية. وعندما أخبرته برغبتها في التمثيل نصحها مباشرة بدخول المعهد العالي للفنون المسرحية لإيمانه بأن التمثيل علم، وشجعها على تثقيف نفسها من خلال المكتبة الغنية التي كان يمتلكها.