مجلة البعث الأسبوعية

فردوس أتاسي.. زهاء اللقطة الأخيرة في كاميرا مخرج كبير

“البعث الأسبوعية” ــ جمان بركات

في سيرة المبدع يتتبع الناس عموماً، والمهتمون بالشأن الثقافي خصوصاً، مزايا انطباع شخصية ذاك المبدع على صفحة أعماله؛ ولعل الراحل الكبير فردوس أتاسي يجمع في عمله ومزاياه الشخصية تعانقَ النبل ودماثة الخلق. وقد أجمع الكل في يوم رحيله – بعد معاناة مع وباء العصر كورونا – على أنه من أشد المبدعين السوريين تواضعاً ولطفاً وطيبة معشر، فكتبت الفنانة شكران مرتجى على صفحتها الشخصية: “هل يتقصد هذا الوباء مهاجمة الطيبين؟ هل يتقصد أن يحاربهم وهم من بالحب متدرعون؟”.

في أعماله، نجد بصمة السوري النبيل بادية في البطل الحامل لقيم جمال وأخلاقيات هذه الأرض؛ ترك العديد من الأعمال المهمة في تاريخ الشاشة السورية بعد تنقلات في شتى مضمارات العمل الفني الإداري والمهني والإبداعي، وقد اختارته وزارة الثقافة، عام 2018، من ضمن المبدعين السوريين الـ 12 المكرمين خلال احتفالية “يوم الثقافة السورية”، لما صنعه من أعمال إبداعية لاقت نجاحاً لدى الجمهور، وقد نال العديد من الجوائز الذهبية والفضية والبرونزية من إيران ومصر وتونس وتشيكوسلوفاكيا، بالإضافة إلى العديد من شهادات التقدير في سورية عن أعماله الدرامية.

في السادس من حزيران الجاري، رحل فارس من فرسان الفن السوري، رحل كفراشة تعرف كيف انتقت الزهر ليرتشف عسل الفن، ثم لون أيامنا برفيف أجنحة الإبداع.. فردوس أتاسي في آخر مشهد له، انطفأت كاميرته، وانداح في المدى صوته، وهو يقول: “أكشن”.. رحلة المبدع.. النهاية.

حاولنا من خلال مجلة “البعث الأسبوعية” كتابة بعض الأسطر وتجميع شهادات عن المخرج الكبير، فتنوعت وتشعبت، وكانت أغلبها عبرات وغصات أكثر منها كلمات.. كانت أشبه بدموع تنزرف لرحيل الحبيب وعدم القدرة على التعبير عن قيمة الفقيد إلا بالدمع والعبرات. ولعلّ أشد ما أجمع عليه كل الذين استقرأنا آراءهم بالراحل هو نبله الشديد ولطفه العالي في التعامل مع أصدقاء المهنة، والفنانين، والناس، في كواليس أعماله ولقاءاته وبرامجه الثقافية الخاصة؛ وبرحيله فقدت كاميرا الدراما السورية نجماً كبيراً كان يدل السائرين في دروبها على الطريق الصحيح نحو النجاح.

 

اليد البيضاء

مهند صوان، شاعر وكاتب لمسرح الطفل، كان له وقفة خاصة مع الراحل أتاسي، وحين سألناه عن تفاصيل تلك الوقفة قال:

لن أنسى تلك اليد البيضاء التي حطت على كتفي حمامة سلام ومحبة، نسراً شامخاً.. لن أنسى تلك القامة الأنيقة المهيبة التي قابلتها عندما كنت صغيراً في أروقة مدينة الشباب في دمشق؛ كان لقاءً رائعاً تحدث فيه الراحل فردوس أتاسي عن تجربته الفنية وعبقريته في المسرح والتلفاز، والتي من خلالها شجعنا كثيراً على الكتابة والإبداع؛ وعندما سألته عن دعمه للأطفال والشباب، استفاض كثيراً معبراً عن أمله بجيل شباب سورية وأطفالها جيل المستقبل.. لا أنسى أنه عندما انتهى اللقاء، وقف أمامي كبيراً عظيماً، ووصفني بالعبقري المبدع الصغير، وقال لي: “أنتظرك في دمشق العروبة والشموخ، أنتظرك كبيراً متألقاً، وستحظى بالمرتبة التي ستليق بك”!! كانت كلماته حافزاً وأملاً، وها أنا ذا يا دمشق أتيتك مخرجاً لمسرح الطفل، وشاعراً، ومحرراً صحفياً. لكنني، وللأسف، فقدت ذلك النجم الذي حلق بروحي في الصغر، وحملني على جناح الأمل نحو مستقبل دمشقيّ عريق.. سلاماً لروحك الطاهرة ونفسك المتواضعة العظيمة، ولن أنساك يا معلمي أبداً.

 

قلب أبيض

وفي معرض تذكر لحظاته مع المخرج أتاسي، يقول الفنان محمد فلفلة:

“لروح المخرج الكبير فردوس أتاسي الرحمة والسلام.. كان صديقاً للجميع، بقلب أبيض لا يحمل الكره، ولا يعرف الضغينة؛ كان مرحاً ودوداً، وصاحب ابتسامة دائمة.. غادر بصمت، وترك غصة وفراغاً كبيراً في قلب كل من يعرفه.. لي معه مواقف عدة وحالات وجدانية متكررة في كل مرة كنت ألتقيه، وأهمها تلك المواقف التي رأيته فيها الإنسان الخلوق المهتم بتفاصيلنا كفريق عَمِل معه؛ كان فردوس أتاسي أباً رحيماً وأخاً كبيراً لكل من يعمل معه، وكواليس أعماله والزملاء يشهدون بذلك”.

 

شيخ المخرجين

ينتمي فردوس أتاسي إلى عائلة كان لها حضور معروف، وتحمل إرثاً سياسياً وعسكرياً عميقاً في ثنايا التاريخ السوري. ولد عام 1942 في حمص، وافتتح أول أعماله في مهرجان دمشق المسرحي، عام 1971، فكان مسرحية لصالح المسرح القومي في دمشق بعنوان “الغرباء لا يشربون القهوة”، عن نص للكاتب المصري الراحل محمود دياب، بعد أن عاد من دراسته في المعهد العالي للفنون في براغ، في تشيكوسلوفاكيا، وتخرج منه بدرجة ماجستير، وفيها ناقش أتاسي انعكاسات هزيمة حزيران على الإنسان العربي، فكانت مسرحية تنطوي على دروس في الطيبة الساذجة بمعناها البسيط والمباشر. ثم انتسب إلى نقابة الفنانين السوريين، وشغل منصب رئيس دائرة المخرجين في التلفزيون السوري، وبعدها اهتم بأعمال الدراما التلفزيونية، منذ عام 1972، وكان من أهم مخرجيها في الوسط الفني السوري خلال ما سمي بـ “العصر الذهبي”، ونال على ذلك لقب شيخ المخرجين السوريين.

قدم أتاسي العديد من الأعمال والسهرات التلفزيونية التي أسست لذهنية إخراجية مختلفة آنذاك، وجذبت شرائح أوسع من الجمهور، فقدم أعمالاً درامية بمثابة دراما سورية صرفة ما قبل فورة الفضائيات العربية، ومنها “نهاية اللعبة”، عام 1990، و”العروس”، 1992؛ وفي رصيد الراحل أعمال تلفزيونية تركت أثرها في ذاكرة المشاهد السوري والعربي، ومنها “البيادر”، و”أحلام منتصف الليل”، و”الدروب الضيقة”، و”امرأة لا تعرف اليأس”، و”الطبيبة”، و”ياقوت”، و”مذكرات عائلة”، و”تمر حنة”، ” و”جبران خليل جبران.. الملاك الثائر”؛ وكذلك مسلسله الباقي في الذاكرة حتى الآن بعنوان “المحكوم”، 1995، وفيه أطل أتاسي على عالم السجون عبر قصة شاب يتمكن من التغلب على ظروف السجن، وينال شهادة في الحقوق، ليخرج بعدها من وراء القضبان رجل قانون ناجح.

ويحسب للمخرج السوري الراحل قدرته على بناء مشهدية معتدلة ومدروسة، وبعيدة عن الاستعراض المجاني، وفقاً لما يخدم رواية القصة التلفزيونية بالصور، وبعيداً عن أوهام كانت قد رافقت العديد من أبناء جيله بإدخال السينما إلى التلفزيون، إذ كان أتاسي مؤمناً بأن لكل فن شروطه الفنية الخاصة به، والتي لا يجوز أن تختلط لا في الشاشة الصغيرة ولا في الكبيرة.