مجلة البعث الأسبوعية

لا تعذليه.. إن الفن يؤرقه!!

“البعث الأسبوعية” ــ رامز حاج حسين

“مالك وللفن فإنه لا يطعم الجياع!!”.. كلمة قالها آلاف الأشخاص لآلاف الفنانين في بداية طريقهم!! الفن بمفهومنا الاجتماعي والأسري الخاص، وخصوصاً أننا في سورية بلد العمل والإنتاج والصنعة والحرفة، بلد أسس مفهوم الحضارة، منذ استوطن إنسانه الأول هذه الأرض وعمّرها، فحفر للزراعة دروباً، وأكملها بدورة الصناعة والتجارة، فكانت الحرفة والصناعة والعمل مترسخة في الجينات؛ وما اعترض عليه في نقاشي حول هذه الفكرة، مع المعترضين على جدوى الفن كمهنة، أنه فعلاً كان مهنة، بل ومهنة عالية الكعب؛ فمن كان يعمل ليترك لنا كل هذا الجمال الحضاري، من أوابد ومعالم ونقوش ولوحات وتطريزات خالدة، إن لم يكن فناناً بالفطرة.

أذكر حكايات جدتي ووالدتي عن طقوس تطريز الثوب السراقبي التقليدي المشهور (القندورة)، وكيف كان يحلو السهر في ليالي الشتاء على ضوء الكاز لإنتاج تلك القطع العالية المستوى، والمتقنة العمل، بفن لا يشابهه أي فن على وجه الأرض، فتجد التطريزة والحبكة لكل خيط، وكأنها شغل “مكنات” عليها جان، وليست من صنع بشر!! ثم كيف لهذه النسوة في الريف، الموغل في القدم والحكايات وزواريب البساطة، أن يتعلمن هذا الفن وكأنه صادر عن أعلى أكاديمية في العصور الوسطى؛ ولو أن الثوب ينطق لقال لنا حكايات عن أول تطريزة، ومن أبدعها، وكيف وصلت بهذه الطريقة الجميلة والمتقنة لآلاف الأنامل لتحوك بهذه الدقة والبراعة!!

 

أسطورة غير منطوقة

يحلو لي أن أتصور أن أصل القندورة كان حرباً دامية على أبواب حصون مملكة إيبلا، حيث يطيب للفرسان أن يفتدوا وطنهم ببذل دمائهم على عتبات الحرية، ويكون هناك في داخل السور نساء حبيبات وزوجات وأمهات ينتظرن عودة الأبطال؛ وقد يكون هناك أميرة ذات شرف رأت فارساً من عامة الناس يحارب عن حياض الأهل بكل بسالة، فوقعت في حبه، حتى إذا كان يوم استشهاده خرجت بثوب الحداد الأسود، واحتضنت براحتيها دمه، ومسحت به على ثوبها، فنشأت تطريزة متقنة من زخارف تشبه لون شقائق النعمان ورسمها؛ فكانت تلك القندورة الأولى في التاريخ، وراحت صبايا المملكة في كل عرس يشترطن وجود هذا الثوب في جهازهن كنوع من تكريم الدم والعرق والفرح الناضح من الحزن.

 

لا تعذليه فإن الفن يولعه

بين الأسطورة والواقع، هناك خيط من الفرح الناضح من الحزن، وهو سبب كتابتي هذه السطور. والسؤال الذي أستميحكم عذراً لكثرة تكراره: لماذا يكون الفنان السوري المشتغل في حقل الرسوم الطفلية هو الأكثر تعرضاً للتهميش؛ والقصد هنا على المقلبين المادي والمعنوي. هل يعقل أننا ما زلنا نعامل لوحات قصص الأطفال بالتسعيرة نفسها المتفق عليها منذ أكثر من عشرين عاماً؟ وهل انسلخ القائمون عن هذه الأمور عن الواقع، فظنوا أن رسام قصص الأطفال كائن من المريخ ينزل إلى كوكبنا الجميل، فيرسم ويبدع متنزهاً عن كل الظروف المحيطة بنا، ثم يعاود التحليق لكوكبه في المساء، بعد الفراغ من عمله؟

هل يعقل أنه ما زال هناك من يحاسب فنان قصص الأطفال بمبلغ وقدره 1000 ليرة سورية، فيما يكون المحيط العربي لهذا الفنان نفسه يدفع مقابل إبداعه أضعاف أضعاف المبلغ المذكور؟ من هي الجهة الراعية لفن الطفل وكيف نخاطبها؟ كيف يكون للفنانين المشتغلين برسوم الأطفال تجمع ما يحصّل الحقوق، ويدافع عن المنتج الفني العالي لنا؟ كيف تعود للفن السوري الموجه للطفل مكانته، ورونقه؟ ونعيد إنتاج مجلات وكتب أشبه بالفترة الذهبية التي أسس فيها الرعيل الأول مجلة “أسامة” العريقة، وكتب المناهج المدرسية آنذاك؟ كان كل الفريق – من فنانين وتشكيليين – يختطون للفن السوري للوحة الطفل بدايات التألق والإنجاز العالي، واليوم يكمل فريق مميز من الفنانين السوريين الدرب نفسه، ولكن بمعوقات كبيرة وتفاصيل مرهقة من تعب وجري وركض وراء تحصيل الحضور والأجور.. لا ينفع اللوم والعذل هنا، لا يمكن أن نخبر فنانة امتهنت فن الفرح لأطفالها أن هذا الفن لا يطعم الخبز.. الحالة هنا أشبه بالإدمان المستشري، ولكنه إدمان حميد على فعل محمود!!

كيف نقنع سناء قولي ولجينة الأصيل، اليوم، بأن ترك الريشة وعمل الرسم للأطفال هو الحل لعدم التقدير والأجور المتهاودة؟ سيكون الجواب منهن، ومن الكثير من الفنانات والفنانين في هذا المجال: إن الرسم لأطفال سورية يجري في دمنا كالنسغ، لا انفكاك منه، يشبه تدافع الكريات الحمراء والبيضاء في وسط بلازما من العشق الدافق في العروق.

 

ابتسامة الفنان علاج

لنبتسم ونواصل الدرب، زملائي في حب الطفولة وفنها، فلا بد أن تستجيب ربة الأمنيات والأعطيات، الآلهة السورية الأم، يوماً، لصلاة الريشة وبوح الألوان!! ولنحافظ أبداً على جذوة الحب في داخلنا، فوراء كل كتاب نرسمه هناك طفل وطفلة يبتسمان لرسومنا ويشربانها مع حليب الأمهات.

يقول المسرحي الكبير شكسبير: “الزمن بطيء جداً لمن ينتظر.. سريع جداً لمن يخشى… طويل جداً لمن يتألم… قصير جداً لمن يحتفل، لكنه الأبدية لمن يحب”.