الصفحة الاخيرةصحيفة البعث

التراث.. وما نريده منه!

حسن حميد

كنّا في حوار صاخب وطويل حول التراث العربي وأهميته، وحول أعلامه ومكانتهم، وحول موضوعاته ما إن كانت مناسبة لعصرنا الراهن أم لا. وحول وظيفته التاريخية والفكرية في تثقيف الأجيال المترادفة تترى، وهل من الصحيح أننا لسنا بحاجة لهذا التراث لأنه بات بعيداً ومغوراً في الماضي، فما قاله لضرورات كانت واجبة آنذاك، وهذه الضرورات الواجبة ما عادت ضرورات ولا واجبة اليوم، وإذا ما أخذنا بهذا التراث ماذا سنجتبي منه؟! وإذا ما تركناه ما الذي سنخسره؟! وهل البحث في التراث أو قراءاته ومعرفة ما فيه ضرب من العبث، وهدر للوقت والطاقات؟!

أسئلة كثيرة، وكثيرة جداً، دارت في فضاء ثقافي رائق عصفت به أحياناً آراء غاضبة، واحتجاجات صاخبة، وانفعالات افتقدت إلى المؤيدات، ولكنها كانت أسئلة مهمّة جداً، لأنها استندت أيضاً إلى عتبات أولية لابدّ منها، أي لابدّ من معرفتها والبناء عليها، ومنها: لماذا تعود الأمم إلى الماضي الذي فيه تراثها، وسير أعلامها، ووقائع وأخبار أحداثها وحادثاتها؟! ومن هي الأمم التي تعود إلى الماضي، أهي الأمم القوية أم الضعيفة؟ وما هي أسباب هذه العودة؟ أتعود إليه كي تستقوي به، أم تعود إليه لتنهل منه، أم تعود إليه طلباً للحكمة والعبرة، أم تعود إليه لاستكمال سيرة التاريخ والأجيال في متوالية زمنية لابدّ من الأخذ بسيرورتها، والانتباه إلى ما في صيرورتها من إيجابيات؟

ولأن أمداء الحديث، والحوار، والجدل، كانت طويلة وواسعة، فإن الاقتصار على الخلاصات مهمّ جداً، في هذه المساحة الضيّقة، وأبرز ما توصل إليه النقاش هو الآتي:

أولاً لابدّ من العودة إلى الماضي الذي فيه التاريخ وسوسيولوجية الحياة التي عرفها العرب قديماً، وعبر عصورهم المختلفة، ليس لأن جميع الأمم والشعوب تعود إلى الماضي فحسب، وإنما من أجل أن يعرف الأبناء الآباء، وأن يعرف الآباء الأجداد، وفي هذه المعرفة تكمن معرفة التطور للعادات والتقاليد، مثلما تكمن ذهنية الأعراف والتصورات التي تروم المستقبل في بعض وجوهها.

وثانياً لابدّ من قراءة هذا التراث الماضوي، وفي جميع وجوهه، بعد جمع الكثير مما فقد منه لأسباب كثيرة.

وثالثاً لابدّ من اعتماد الطرق الحسابية، ولاسيما الطرح، أي الخلاص من كل ما هو غير نافع ومؤيد وبهيج في عصرنا الراهن، ولا يعني الطرح الإسقاط أو المحو أو الدفن، أبداً. ما يعنيه هو أن يحيّد ليبقى بين أهل الدرس والاهتمام.

ورابعاً أن تأخذ المؤسّسات المعنية بالتراث دورها في بيان أهمية هذا التراث المراد معرفته في أوقاتنا الراهنة.

وخامساً لابدّ من استعادة المفقود من تراثنا، أي الموجود في خزائن المكتبات العالمية في البلدان التي استعمرت البلاد العربية، وذلك عن طريق توجيه طلبتنا الدراسين لمعرفة هذه الكتب (التي مازال بعضها مخطوطاً)، وألا تترك لأيدي المستشرقين الذين لا تخلو آراؤهم من هوى أو فجوات وأشراك.

وسادساً أن يصير هذا التراث، في بعض مواده، بين أيدي الناشئة، وأيدي طلاب الجامعة، والباحثين في آن.

وسابعاً أن نصل إلى حقائق يجمع عليها الدراسون بأنها هي ما يهمنا حين نريد معرفة الجرجاني، والجاحظ، وابن قتيبة، والفراهيدي، وسيبويه، والتوحيدي، وشعراء المعلقات، وأهل الخطابة والحكمة والفلسفة، ومن تلاهم من أعلام في العصور التالية.

حوار رائع حول التراث، غايته ألا نظلّ مشتّتين حين ننظر إلى الأعلام والأفكار والقضايا والأحداث والوقائع، وهذه الغاية هي غاية أهل أوروبا حين درسوا وبحثوا تراث اليونان والرومان والاسكندناف، فاصطفوا ما اتفقوا عليه، فهل نحن من الفاعلين احتراماً لتراثنا الماضي، ومعطياتنا الراهنة؟!

Hasanhamid55@yahoo.com