الصفحة الاخيرةصحيفة البعث

بلاغة القلب

د. نضال الصالح

إلى الآن، وباستثناءات لا تتجاوز أصابع اليدين، لمّا يزل معظم الجامعات العربية ينظر إلى الأدب الشعبي بوصفه حقلاً ثقافياً من الدرجة الثانية، وربّما الثالثة، وغير جدير بمنحه بطاقة شخصية دالّة على انتمائه إلى حقل الأدب، على الرغم من جدارته بذلك، بل على الرغم من تفوّق الكثير من بعض الأجناس الذي تنتمي إلى مجاله (الحكايات، الشعر، الأمثال، المأثورات..) أحياناً على الكثير ممّا يُصطلح عليه بالأدب الرسميّ الذي يتميّز من هذا الأدب بغير سمة، من أبرزها: التدوين، واللغة، واسم المؤلف.

في الكثير من المأثور الشعبي بلاغة فارعة تتفوّق أحياناً على بلاغة النخبة، بل تعيد للبلاغة اعتبارها الذي سلبته إياها إرادات التزويق والتكلّف والصنعة، شأن الكتابات التي تزعم انتماءها إلى الشعر، والتي يتوهم أصحابها أنّ الشعر هو وحده ذاك الذي كان قدامة بن جعفر عرّفه بأنّه: “قولٌ موزون مقفّى يدلّ على معنى”. ومن ذلك الكثير ما يتواتر في الملفوظ الشعبي من مفردات وتعبيرات باذخة على مستويين: بلاغي محمول على مختلف أشكال علوم المعاني والبيان والبديع، وإنسانيّ دالّ على سموّ روحيّ مُعجزٍ لأكثر البلغاء والفصحاء إبهاراً في القصْر والإنشاء والتشبيه والتورية والكناية والمشاكلة والجناس و.. وسوى ذلك من فنون البلاغة.

ومن بهيّ ما ينتمي إلى هذا المجال معجم الألفاظ والتعبيرات التي تكاد تكون خاصة بجبل العرب، والتي يتردّد بعضٌ منها في غير كتاب لغير باحث وأديب من أبناء المنطقة، ومن أولئك الراحل سلامة عبيد في كتابه: “أمثال وتعابير شعبية من السويداء”، وما تابعه فوزات رزق في كتابه: “من حكايات الأمثال وأصول التعابير الشعبية في جبل العرب”، وبدرجة أقلّ ممّا سبقَ ما قدّمه عطا الله الزاقوت في كتابه: “العادات والتقاليد في جبل العرب”، فما يحفل به كتابا أكرم رافع نصر: “المثل في تاريخ الجبل”، و”الأدب الشعبي في تراث الجبل”.

إنّ تعبير “يا غمّاضي”، على سبيل المثال، الذي يستخدمه أبناء الجبل على نحو يكاد يكون خاصاً بهم، بل لعلّه وقفٌ عليهم وحدهم، يتضمّن حمولة روحية جليلة تتطامن أمامها أساليب الدعاء جميعاً التي عرفها الأدب الرسميّ، والتي تنتمي إلى فضاء المشاعر الأكثر قداسة والأعلى طهارة، الحبّ، والتي يتجاوز هذا الأسلوب من خلالها كونه دعاء إلى كونه جهراً ببلوغ الذات الداعية مقاماً عالياً من الحبّ للذات المقصودة بالدعاء، ليس بسبب ما يحيل عليه واقعاً من ضراعة الذات الأولى لتكون الثانية هي مَن يُسبل عينيها بعد أن ترتقي الروح إلى الملكوت، فحسب، بل، أيضاً، بوصفه، واقعاً ومجازاً، تكثيفاً سامياً لمجمل ما تتقدّس به الروح من هوى، فصبوة، فشغف، فوجد… حتى الهيام.

وبعدُ، وقبل، فمتى يكون للأدب الشعبيّ كرسيّه الخاصّ به في جامعاتنا كما هو الأمر في غير جامعة عربية، ولاسيما أنّ التراث الشعبي في بلادنا زاخر بكنوز حكائية وشعرية وأمثال وألفاظ وتعبيرات ومأثورات دالّة على غنى روحيّ وثراء إنسانيّ حقٌّ لنا أن نفخر به، وواجبٌ علينا ألا ندعه نهباً لعصف النسيان.