الصفحة الاخيرةصحيفة البعث

عالم التفكير

ناظم مهنا

في محاورات فلسفية أجراها أستاذ الفلسفة المصري مراد وهبة مع فلاسفة سوفييت في موسكو، نشرت في كتاب عام 1969، استوقفني تعريف جديد للفلسفة على أنها “علم التفكير”، ويضاف هذا التعريف المقتضب إلى تعريفات عديدة للفلسفة، وبمقدار ما يبدو التعريف بسيطاً يمكن إدراكه بسهولة، ولكن عند التأمل نكتشف كم هو مكثف ومركب ومحيّر أيضاً، إنه يجمع بين حدين: أحدهما خاص وهو العلم، والآخر شمولي هو التفكير، فأي إنسان له دماغ سليم يملك نعمة التفكير، ولابد له من التفكير، و”التفكير مطية الفلسفة”، أما العلم فليس كل إنسان عالماً بالمعنى الأكاديمي، ولكن، كل إنسان يعلم أشياء ويجهل أشياء، كما قال أبو نواس: “قل لمن يدّعي في العلم فلسفة/ حفظت شيئاً وغابت عنك أشياء”، فالعلم والجهل يخضعان للنسبية.

ويقودنا التعريف المذكور إلى أن بإمكان كل إنسان أن يفكر في فضاء فلسفي رحب، ولكي لا يعتقد البعض أن في هذا ابتذالاً للفلسفة، وجعلها مشاعاً لكل من هب ودب، لابد من التوضيح أن تفكير الناس فلسفياً لا يعني أن كل الناس فلاسفة، وإذا ما سلمنا بذلك، عندها لا نجد ضيراً من الدعوة العامة للتفكير، بل تكون في ذلك فائدة إذا ما تفاعل الناس مع الفضاء التنويري الذي يمنحه التفكير الفلسفي، والذي ينمو ويزدهر على أيدي الفاعلين من فلاسفة ومفكرين.

كان غاستون باشلار يرى في التفكير العام عائقاً يواجه التفكير العلمي، ويلحظ باشلار ثلاثة مستويات تميز الناس في التفكير العام: المستوى الأول: مستوى النفس العامية أو العادية، المتحركة بدافع حب الاستطلاع الساذج والمصاب بالدهشة أمام أدنى ظاهرة آلية، والمستوى الثاني: مستوى النفس المُعَلّمة، وهي فخورة جداً بمعتقدها، متحجرة في تجريدها الأول، تستند مدى الحياة إلى نجاحات شبابها المدرسية، وتخصص كل شيء بالاهتمام التربوي، والمستوى الثالث: النفس التي تعاني من مصاعب التجريد والاكتناه، وهي وعي علمي متألم يسترسل في الاهتمامات الاستقرائية الناقصة باستمرار.

أما عند شبنهور، فقبل كل شيء يجب أن تتوفر إرادة التفكير بالفلسفة، ويرى أن الإرادة تصفو بالفلسفة، وينبغي أن نفهم الفلسفة على أنها تجربة وفكر، لا مجرد قراءة ومطالعة ودراسة، ولشبنهور موقف سلبي من لجوء العلماء والفلاسفة للقراءة، ويرى أن ميل معظم العلماء للقراءة هو نوع من امتصاص الفراغ، وذلك أن إجداب عقولهم يدفعهم إلى سحب أفكار الآخرين رغماً عنهم، ومن الخطأ، من وجهة نظره، أن نقرأ عن موضوع قبل أن نكون فكّرنا فيه بأنفسنا، وعندما نقرأ لغيرنا يكون غيرنا يفكر لنا، والشخص يفقد تدريجياً مقدرته على التفكير إذا قضى أيامه في قراءة غيره، و”أن كتاباً واحداً من عبقري يساوي ألفاً من كتب المعلقين”.

الحقيقة أن القراء عندنا، على قلتهم، يعانون من هذه الحالة، فنحن عادة نلجأ إلى المفسرين والمعلقين والنقاد لنستعين بهم في فهم النص أو المتن، حتى ننسى الأصل، ولا يعلق في الأذهان إلا ما قال عنه أصحاب الشروح، هذا فيما يخص القراءة، فكيف بالكتابة؟!.

ما نريد أن نخلص إليه، أن التفكير أمر شائع بين الناس، والخطوة التالية أن يرتقي هذا خطوة أخرى، ليغدو تعلّماً ثم علماً، وتأملاً، واستكشافاً، وبالتالي تفلسفاً يمتلكه كل الناس بالدرجة التي يحتاجونها أو يرغبون بها، فتكون لكل إنسان أفكاره عن نفسه، وعن مجتمعه وعصره، وعن الكون والحياة، ودوره في هذا العالم، وتأملاته في الأشياء والمفاهيم، وله أحاسيسه وتطلعاته وطريقته في التعبير.