الصفحة الاخيرةصحيفة البعث

واسيني الأعرج..

حسن حميد

منذ سنوات وأنا أتابع ما يبديه الكاتب الجزائري المعروف واسيني الأعرج من اهتمام كبير لإماطة ما غمض من حياة بعض الأدباء والأعلام العرب والأجانب، فذهب إلى الزوايا البعيدة التي احتشدت بالأسرار والظلمة المصطنعة، وإلى الرسائل الوجدانية التي تكتب عادةً على انفراد حقيقي جميل مع القلب تارةً، ومع الهواجس وأسئلة الروح تارةً أخرى، ولعلّ من أبرز الأدباء الذين اهتم بهم واسيني الأعرج الأديبة مي زيادة (1886 – 1941) التي عاشت حياة غربة تكاد شساعتها لا تحدّ، ويكاد ما فيها لا يدرك كله أو جلّه، ويكاد الوجه التراجيدي يغطي وقائع حياتها.

اهتمام واسيني الأعرج بالأديبة مي زيادة لم يأتِ من أنها كاتبة مهمّة كانت الحياة الثقافية في مصر المحروسة تُدار وتبدو وتنشط من خلال لقاء أدباء مصر وكتابها الكبار في منزلها (صالونها الأدبي)، ولم تأتِ لأن مي زيادة كاتبة من طراز متفرّد في التعبير والأسلوب وتبني الأفكار ومحاورتها، بل لم يأتِ هذا الاهتمام للشهرة الطفوح التي عرفتها مي زيادة في مصر بعد أن انتقلت إليها من فلسطين، ولا لأنها كانت صاحبة سيرة ذاتية غاية في الاكتناز والجمال والرهافة والصدق بادية في رسائلها التي كتبتها للأدباء والمفكرين والكتّاب من حولها، وللأدباء المعروفين بشهرتهم وإبداعهم خارج البلاد العربية (جبران خليل جبران مثالاً) فحسب، وإنما اهتم بها الاهتمام كله لأن سطراً تراجيدياً قاده إلى مثل هذا الاهتمام فحواه: أن مي زيادة لم تختتم حياتها بموت طبيعي، وفي بيت طبيعي، وفي حياة طبيعية تمضي إلى خاتمتها بهدوء وريث شديدين، وإنما كانت الخاتمة فاجعة، حين قيل إنها فقدت عقلها، لهذا احتجزها قريبٌ لها في مصحة، عفواً في سجن، ضاقت وضاق عليها، فبكت، واشتكت، ونادت، وكتبت، وترجّت، ولكن لم يسمع صوتها.

هذا السطر الطويل هو الذي قاد واسيني الأعرج ليهتمّ بسيرتها، وهذا أمر شديد الأهمية لأسباب كثيرة، لعلّ في طالعها: ألا يترك مثل هذا الأمر للتقولات والشكوك ومرويات الأخبار الكذوب أو الملفّقة، ويموت كل شيء بتقادم الزمن، أو يطوى على جروح راعفات. وكي لا يترك مثل هذا الأمر لباحث أجنبي (مستشرق) ليكشف لنا بعض أسرار حياة مي زيادة، لهذا اهتمّ واسيني الأعرج بسيرة مي زيادة، فكتب مقالات كثيرة عن حياتها وأدبها ومأساتها التي أدّت إلى موتها فوق سرير حديدي، وطيّ أحزانها المريرة، وصراخها الطويل، وحاضر في أمكنة عدة ليتحدث عنها، لا بل كتب رواية رائعة عنها، أعدّها من أهم أعماله، لأنها ليست رواية إبداع فحسب، وإنما هي رواية بحث وتقصٍ لوقائع ومجازات لا تأتي بها إلا الروح المحبة الودود.

والمدهش أن ما كتبه واسيني الأعرج أدهش قراءه في ثلاثة أمكنة عاشت فيها مي زيادة: لبنان، فلسطين، مصر، من خلال ما قدّمه من معلومات عرفها القراء للمرة الأولى على الرغم من الكتب الكثيرة التي دارت حول حياة مي زيادة، والمقالات التي كتبها الأدباء والكتّاب والمفكرون الذين كانت لهم أيام في صالونها الأدبي، وسبب الدهشة هو أن أحداً من كتّاب هذه البلدان الثلاثة لم يتصدّ لسبر حياة مي زيادة التي عرفت أسراراً كثيرة، وغرائب كثيرة وصلت إلى حدّ التناقض.

أتى واسيني الأعرج الذي بات اليوم من أهم الروائيين الذين يكتبون سير الكبار أدباً، وروايةً، (ومنهم عبد القادر الجزائري) فيصير ما كتبه تاريخاً مهماً وحقيقياً لهؤلاء الأفذاذ، بعد أن أنار بقناديله الزوايا الكثيرة التي عرفت ظلمة شاسعة، وأبدى الأسرار التي ظلّت سنوات طوالاً محفوفةً بالغموض.

ما فعله واسيني الأعرج تجاه مي زيادة ، فعل نبيل لا تأتي به إلا روح عاشقة للنبل، عطشى للمعرفة، مهمومة بالوصول إلى نورانية الحياة وبساتينها الغنية.

Hasanhamid55@yahoo.com