مجلة البعث الأسبوعية

العقد الحاسم.. الحزب الشيوعي الصيني مؤسسة مرنة قادت عملية التغيير الاقتصادي بنجاح ولا غرابة أن يتعامل بنجاح مع التحديات الراهنة والمستقبلية

“البعث الأسبوعية” ــ ترجمة: عناية ناصر

على مدى العقود الأربعة الماضية، ترسخت رواية بين صانعي السياسة تشير إلى أن صعود الصين سيستمر إلى أجل غير مسمى، حتى عندما تشير الرياضيات والديموغرافيا إلى خلاف ذلك. وبين الثمانينيات وبداية الألفية، كان هذا المفهوم مدفوعاً بالنمو الصيني المذهل. وفي السنوات الأخيرة، على الرغم من أن توقعات النمو قد خفت، إلا أن صعود الصين سياسياً وعسكرياً أكد الانطباع بأن تقدم بكين لا يمكن إيقافه. وفي مقال نشر مؤخراً في مجلة “فورين أفيرز”، حاول ريان هاس، الزميل في معهد بروكينغز، الترويج لقناعة مفادها أن “الصين ليست بطول عشرة أقدام”، وأن “الولايات المتحدة تظل القوة الأقوى”، لكن الأشهر الأولى من العام 2021 جلبت أيضاً طوفاناً من العناوين الرئيسية التي لم تخف إعجابها بالتعافي الصيني السريع من وباء كورونا، متوقعة المزيد من النجاح الاقتصادي الصيني في المستقبل.

ليس هناك شك في أن الصين قد حققت نجاحات اقتصادية، ليس فقط في فترة جائحة كوفيد-19، ولكن أيضاً على مدار العقدين الماضيين وأكثر، ما أدى إلى إعادة اكتشاف البلاد لنفسها كمبتكر رئيسي في مجال التكنولوجيا، وتطويرها لاستراتيجية الاستثمار الأجنبي المباشر من خلال “مبادرة الحزام والطريق”، وقد أدت تجربتها المميزة إلى خلق بيئة فريدة للتنمية الاقتصادية. وحقيقة أن نمو الصين لن يستمر في التوسع اللامتناهي ستجعل عشرينيات القرن 21 عقداً حاسماً بالنسبة للصين، وحتى صناع السياسة في الصين أعربوا عن مخاوفهم بشأن المستقبل.

فاعتباراً من عام 2030 فصاعداً، ستبدأ البلاد في الشعور بآثار سياسة الطفل الواحد التي تم تبنيها في أواخر السبعينيات. على الرغم من أن هذا التقييد انتهى رسمياً في العام 2015، ما أفسح المجال لسياسة طفلين، ومؤخراً، سياسة ثلاثة أطفال التي تهدف إلى زيادة معدلات المواليد. ومن المرجح أن يتقلص عدد سكان الصين بنسبة 48% بحلول نهاية هذا القرن، من 1.4 ملياراً في عام 2017 إلى 732 مليوناً في عام 2100، وفقاً لتوقعات نشرت في مجلة “ذا لانسيت”؛ وقد يعني هذا التراجع، جنباً إلى جنب مع مستويات التعليم الأقل في الريف الصيني الشاسع، أن الصين ستفتقر إلى رأس المال البشري، ما سيؤثرعلى نموها الحالي في المستقبل. وفي الوقت نفسه، تسبب الجفاف الشديد في شمال الصين بنقص كبير في مياه الشرب، وهدد بانعدام الأمن الغذائي، حتى مع بناء مدن رئيسية جديدة هناك، لكن الاحتمال ضئيل بأن يتراجع الاقتصاد الصيني، كما يتنبأ – أو ربما يأمل – بعضهم في الغرب.

 

الخطة الخمسية

على الرغم من أن أدبيات الحزب الشيوعي الصيني، هذه الأيام، تقدم الصين على أنها “دولة واثقة”، فإن الخطة الخمسية التي أقرت حديثاً توضح العديد من المجالات التي تمثل تحدياً للنمو الصيني الفريد (انعدام الأمن الغذائي في بعض المناطق الفقيرة، وزيادة الإنفاق على الدفاع، والتنمية المستدامة، والديون الكبيرة التي تتكبدها الحكومات المحلية)، إذ تؤكد الخطة أن الطابع الإيديولوجي الماركسي اللينيني الصيني أكثر وضوحاً من أي وقت مضى. وكانت الصين دولة شيوعية منذ العام 1949، عندما توج ماو تسي تونغ الثورة الشيوعية بتأسيس جمهورية الصين الشعبية. ولكن، منذ عام 1978 فصاعداً، دخلت الصين حقبة الإصلاح، بقيادة دينغ شياو بينغ، لتنفذ خلالها إصلاحات اقتصادية لتحقيق “اشتراكية ذات خصائص صينية” قللت القيادة الصينية بموجبها من أهمية الإيديولوجية لصالح براغماتية عبر عنها دينغ بحديثه عن “عبور النهر من خلال لمس الحجارة” لوصف التجربة الاقتصادية الصينية التي اتسمت بإدخال آليات السوق في اقتصاد البلاد.

وعلى النقيض من ذلك، أصبح الطابع الايديولوجي في التفكير السياسي الصيني أكثر وضوحاً في السنوات الأخيرة،.

إن إطار العمل الذي يستخدمه الزعيم الصيني الحالي شي جين بينغ، وغيره من كبار القادة، لتأطير معضلات الصين، يعتمد بشكل متزايد على المصطلحات الماركسية الكلاسيكية، مثل “الكفاح” و”التناقض”؛ واستحضار هذه المصطلحات يمكن أن يرتبط إما بمواجهة الصين العالمية الحالية مع الولايات المتحدة، أو برغبة الحزب في تطهير ذاته محلياً من خلال إصلاحات يقال إنها تتخذ لمكافحة الفساد. وفي العام الماضي، استخدمت وسيلة الإعلام الحكومية الصينية “شينخوا” مصطلح “تصحيح” لوصف الإصلاحات داخل الحزب في مدن معينة، ما يذكر باستخدامه من قبل الزعيم ماو لإعادة هيكلة الحزب في الأربعينيات.

في مقال له، في شهر آب، لمجلة كيوشي التابعة للحزب الشيوعي الصيني، أكد شي أن “أساس الاقتصاد السياسي الصيني لا يمكن إلا أن يكون اقتصاداً سياسياً ماركسياً، ولا يستند إلى نظريات اقتصادية أخرى”. وكان هدفه هو رفض فكرة أن “الرأسمالية” – المصطلح الذي يربطه الحزب الشيوعي الصيني بشدة بالنظام الغربي – التي يرون أنها قد فشلت، وليس لها أي صلة باقتصاد الصين اليوم. ولفت شي أيضاً إلى ما وصفه بـ “التناقضات” المجتمعية الرئيسية، وهي جزء من النظرية الماركسية المستمدة في الأصل من الفيلسوف الألماني هيغل. وبالنسبة إلى شي، فإن أحد “التناقضات” الرئيسية اليوم يتمثل في الكيفية التي يمكن للنمو من خلالها أن يكون مستداماً وأخضر على حد سواء، حيث ركز التقدم الاقتصادي في المرحلة الماضية على الناتج المحلي الإجمالي، دون الكثير من الارتقاء بنوعية الحياة المرتبطة بهذا النمو؛ وهو تحدٍ تتشاركه الصين مع بقية العالم، بالتأكيد، لكن قلة من الأحزاب الحاكمة – بخلاف الحزب الشيوعي الصيني – تشير إلى النمو الأخضر المستدام بمثل هذه المصطلحات الديالكتيكية الصريحة. كذلك، يتم التأكيد على اللينينية، وإن بوتيرة أقل من الماركسية؛ ولكن ذلك ظاهر في الخطاب السياسي للقيادة الصينية، وهو يترجم بالتأكيد من خلال سلطة الدولة لتحقيق أهداف اجتماعية أوسع.

يشير ذلك لى الطريقة التي سينفذ بها الحزب الشيوعي الصيني خطته الخمسية، ويفسر العديد من القرارات التي اتخذت في العقد الماضي. إن التوقعات الغربية التي سادت في التسعينيات في أن تحرر الصين أسواقها – أو في الواقع سياساتها – لا بد أن تعترف بأن “اقتصاد السوق الاشتراكي” هو أنموذج حقيقي في كل من النظرية والتطبيق.

 

الإيديولوجيا في الممارسة

حققت الصين تعافياً ملحوظاً من جائحة كوفيد-19، بمعدل نمو 18.3٪ في الربع الأول من العام 2021. وعاد سلوك المستهلك بشكل مطرد إلى طبيعته في العديد من المجالات، بما في ذلك في مجالات الترفيه والضيافة والسفر المحلي؛ ومع ذلك، تشعر قيادة الصين بالقلق من الضغط الذي تمارسه القوى الخارجية، ولا سيما الولايات المتحدة وسياسة العقوبات التي تعتمدها. واستجابة لذلك، تم وضع استراتيجية “تداول مزدوج”، في قلب الخطة الخمسية، تهدف إلى تقليل الاعتماد على سلاسل التوريد الخارجية لصالح الإنتاج المحلي وتحفيز الاستهلاك المحلي مع البقاء كمصدّر مهم للعالم.

هذه الأهداف – التي تتطلب فائضاً كبيراً في التصدير وزيادة الاستهلاك المحلي – لم يتم حلها. ولا يزال لدى العمال الصينيين القليل نسبياً لإنفاقه مقارنة بنظرائهم في الاقتصادات الناشئة الأخرى. لذلك إذا كانت الدولة تأمل في تعزيز الاستهلاك المحلي، سيتعين عليها في مرحلة ما اتخاذ القرار بزيادة دخول العمال، وبعد ذلك ستكون هناك بالضرورة فترة تقل فيها صادرات الصين حتى تتمكن مستويات الإنتاج من تلبية الطلب المتزايد في الداخل. إن القيام بذلك يعني اتخاذ بعض الخيارات الاقتصادية والسياسية غير السهلة.

كذلك ستبرز، أيضاً، التعقيدات أمام مبادرات الصين العالمية، فـ “مبادرة الحزام والطريق”، التي مثلت استراتيجية الاستثمار الأجنبي المباشر للدولة، والتي تم تبنيها عام 2013، أسفرت عن نتائج إيجابية وسلبية، وهي تنطوي على مشاريع ناجحة، ولكنها، في الوقت نفسه، تشمل مشروعات عالية المخاطر مالياً، مثل بناء خط سكة حديد عالي السرعة في لاوس.

لذا، سيتم في عشرينيات القرن الحالي إعادة توجيه “مبادرة الحزام والطريق” للتركيز على التكنولوجيا والصحة، والجمع بين المجالات التي تتمتع الصين فيها بمزايا تنافسية. وقد وشمل هذا التحول الانتشار الواسع للقاحات جائحة كوفيد-19 الصينية، في دول مثل الإمارات العربية المتحدة وماليزيا، بالإضافة إلى توفير شبكات G4، وG5 الرخيصة مقارنة بالشبكات الغربية المماثلة.

ولذلك، من المرجح أن يجد نهج الصين في تطوير التكنولوجيا، والذي يجمع بين قدرات المدنيين والعسكريين على الابتكار لكلا السوقين، سوقاً ضخمة غير مستغلة في الاقتصادات الناشئة التي تريد تكنولوجيا رخيصة مناسبة لأنماط حياة ومنتجات الطبقة المتوسطة، والتي يمكن أن تستخدم لمصلحة المنظومات العسكرية والأمنية.

ولكن في مجال التكنولوجيا أيضاً، يوازن الحزب الشيوعي الصيني بين رغبته في النمو والحفاظ على التوازن الاجتماعي. وكان أحد محاور اهتمامه التركيز على مكافحة الاحتكار في الصين، ولا سيما وكالة إنفاذ قوانين مكافحة الاحتكار، التي تم تحديث صلاحياتها، وجعلها أكثر بروزاً في عام 2021؛ وكان في طليعة من طبقت عليهم هذه القوانين جاك ما، مؤسس شركة التجارة الإلكترونية الصينية العملاقة “علي بابا”، والتي تعرضت مؤخراً لغرامة احتكار بقيمة 2.8 مليار دولار من قبل مؤسسات حكومية تريد رؤية العملاق مقسماً إلى كيانات أصغر متنافسة.

تذكر سياسات مكافحة الفساد بحملات الرئيس الأمريكي السابق ثيودور روزفلت لتفكيك الاحتكارات القوية في أوائل القرن العشرين، بما في ذلك، على وجه الخصوص، شركة الصلب الأمريكية “US Steel”. لكن في الحالة الصينية، وحتى لو تم تقسيم شركات التكنولوجيا العملاقة مثل علي بابا، وهواوي، وديدي تشوكينغ، وميتوان، وتنسنت، لمنع الاحنكار والإبقاء على التنافسية، إلا أن الدولة تظل ممسكة بزمام الأمور، وستوفر حالات التفكيك تنافسية أكبر، لكنها لن تقلل من سيطرة الدولة على السوق المحلية. إن الفكرة الليبرالية القائلة بأن المنافسة تخلق السوق قد لا تتفق مع الاستراتيجية الصينية، حيث تكون الحكومة هي العامل الحاسم. وحتى الآن، يبدو أن هذا النهج البديل يعمل، في الصين، بكفاءة ونجاح.

تمثل هونغ كونغ منطقة أخرى تخضع للأنموذج الصيني الجديد، فقد كان الاقتصاد الليبرالي والحريات المدنية في المدينة يجعلانها جذابة بشكل خاص للمستثمرين الأجانب؛ واعتقد المحللون، ذات مرة، أن هذه القيم الاقتصادية “ستحمي” المدينة من أية إجراءات تتخذها الحكومة الصينية. ولكن في أعقاب قانون الأمن القومي الذي دخل حيز التنفيذ، في تموز 2020، من المرجح أن تعمل الأنظمة القانونية والمالية في هونغ كونغ، في العقد المقبل، بشكل وثيق، مع تلك الموجودة في جنوب الصين؛ وشينزين، وهي مدينة صينية كبرى تقع على حدود هونغ كونغ، هي الآن موطن لواحدة من أكثر البيئات التكنولوجية حيوية في الصين. وفي غضون ذلك، أصبحت قيمة هونغ كونغ أقل ارتباطاً بدورها كمركز مالي عالمي، بل كنقطة دخول لأصحاب رؤوس الأموال الذين يتطلعون إلى الاستفادة من قطاع التكنولوجيا المزدهر في البر الرئيسي. وستحاول الصين إعادة تعريف مبدأ “دولة واحدة ونظامان” – السياسة التي سمحت لهونغ كونغ سابقاً بدرجة من الانفتاح – على أنه “دولة واحدة واقتصادان”، بينما تستخدم الانتعاش الاقتصادي في شينزين وأماكن أخرى في الجنوب الشرقي كدليل على أن “اقتصاد السوق الاشتراكي” كان ناجحاً فيها.

 

عقد جديد

من المؤكد أن هناك العديد من الأشياء التي تواجه مسار النمو الصيني في العقد المقبل. والمشكلة الأولى التي لا يمكن التنبؤ بها هي مشكلة تتشارك فيها البلاد مع بقية العالم، فقد كانت الآمال معلقة في العام الماضي على هزيمة جائحة كورونا من خلال عمليات الإغلاق واللقاحات المطورة بسرعة مفرطة في التفاؤل. ونظراً لانخفاض أعداد المصابين والانتعاش الاقتصادي، فإن الوضع المحلي في الصين أفضل من وضع العديد من البلدان الأخرى، لكنها لا تزال تواجه مشكلة الوباء.

في الآونة الأخيرة، رأى كبير مسؤولي مكافحة الأمراض في الصين، جاو فو، أن اللقاحات الصينية قد تكون أقل فعالية بكثير من اللقاحات التي طورتها شركة “فايزر- بيونتيك” و”موديرما” في الغرب، وأن الأمر سيستمر حتى عام 2022 لتلقيح جميع السكان. وأعلنت الصين مؤخراً أنها تأمل في تطعيم 40% من سكانها بحلول نهاية حزيران، لكنها مع ذلك تخطط للإبقاء على القيود الحدودية سارية مدة عام آخر على الأقل، وفقاً لصحيفة وول ستريت جورنال.

وكان اقتصاد الصين قبل الوباء مرتبطاً جداً بالعالم الخارجي، حيث كان ملايين الزوار يدخلون ويخرجون للعمل والسياحة. ومن الصعب تخيل العودة إلى ذلك حتى عام 2023، على أقرب تقدير.

ومن المرجح أن ينمو الاقتصاد الصيني، وقد يصبح الأكبر في العالم من حيث الناتج المحلي الإجمالي، لكن النمو وحده لن يعالج التحديات التي تواجه البلاد في مناطق مختلفة، مثل الأزمة البيئية ونقص التعليم في المناطق الريفية؛ كما يمكن حدوث سيناريوهات أكثر صعوبة، بدءاً من كارثة مناخية من شأنها أن تجعل الحياة في المدن المبنية حديثاً أكثر صعوبة، إلى اندلاع نزاع مع الولايات المتحدة حول تايوان.

لقد أثبت الحزب الشيوعي الصيني، ومنذ تأسيسه قيل قرن من الزمن، أنه مؤسسة مرنة بشكل ملحوظ، حيث قاد عملية التغيير من اقتصاد موجه إلى عملاق رأسمالي – على الرغم من بغضه الإيديولوجي للرأسمالية – واستفاد من تجارب ودراسات شخصيات غير صينية، مثل لي كوان يو، وميلتون فريدمان، وهنري بولسون، ولا غرابة إذن أن تتعامل الصين بنجاح مع التحديات الراهنة والمستقبلية.