ثقافةصحيفة البعث

سريّة العثمان بين ضفتي الفرات ودمشق

“على مقام الفرات قلبي” عنوان المجموعة الشعرية للشاعرة سرية العثمان الصادرة عن دار بعل- بمقاربة ما بين تقلبات مياه الفرات وذاتها المتألمة من مغادرة دير الزور إثر تبعات الحرب الإرهابية، والفرحة بمكوثها في دمشق لتكون أسيرة مدينتين عشقتا الشعر وموسيقا الكلمات، التي تمضي مثل الموج يصغر ويصغر ليرتطم بضفة النهر، ويبقى الحنين والإحساس بالغربة المطبق على الصدر.

فمن مقام الفرات نغني لحن الحزن والحلم والأمل:

على مقام الفرات/الغربة في الروح شبكُ/يلتف على الحناجر/يختنق الصهيل/والغرغرة/زبد البحر

فمضت تفعيلاتها مع تدحرج اللآلئ التي تدهسها الحصى برمزية إلى ما فعلته الحرب في المدن والبشر مصوبة رصاص الغدر ومفتعلة التخريب.

الفرات كان عنوان قصيدة أخرى وصفت جغرافيته ومجراه الذي ينادي الغيم، وبدت ذاتيتها المرتبطة به مستخدمة زمن الفعل المضارع باعترافات مكنونات الروح الممتدة على صفحات المجموعة مثل أبحث- أتأمل- أتنفس- أتمتم…

“أسمع صهيلك/عزف ناي في صباحات الندى/البرق يضرب الغيم/حيث تتسابق حبات البرد/كي يحتضنها الفرات/في أبدية العشق”

حتى باستخدامها الضمير الغائب تصرّ على الحاضر والفعل المضارع بترتيب متلاحق، يستصرخ- يختنق- يطرق- ينثرها.

وبقيت أسيرة المكان، أسيرة الفرات الذي تحنّ إليه بعدما تغلغل بدمها مثل الماء فارتأت الابتعاد عن المباشرة بإيحاءات تصرح بدلالات الماء مطلقة عليها “خارطة الماء”:

ومن ذا يسري إلى فراتي/ويزقزق على أكتافي/فتموج السنابل

وقد نوّعت الشاعرة في تناولها القصائد التي جاء بعضها على شكل مقطوعات صغيرة تشبه الصولو لآلة واحدة عزفت أنشودة الحب والوطن، فأخذت القارئ عبْر تموجات الفرات بعناوين محمّلة بالمشاعر من خلال مفردة واحدة في أغلبها “مقتل- صمت- مذكرات- شوق- انتظار” ليأتي بعضها في مفردتين مضافتين “أشطر الوقت، سماء قلب، جيب مثقوب” كلها تدور في فلك الروح المتعبة، كما كررت التواصل الخفي الذي تداوله الشعراء في كل العصور كما في “عيناك”:

عيناك مرافئ//ماذا أفعل؟/لو غادرت الشطآن/يا ظلاً/أين ألوذ من الحرّ

واستحضرت مجنون ليلى، قيس بن الملوح بعنوانها “لقيس عيون ليلى”:

إذا جاءته ليلى باكية لتشكو/أماط عن وجهه اللثام/وغنى للعشق ألف أغنية

وجاءت لغتها مبنية على التساؤلات المحمّلة بالشوق والأسرار والمجهول بماذا؟ وأين؟ فشدت القارئ بأساليبها الإنشائية بين النداء والتمني والاستفهام مبتعدة في أكثر المواضع عن فعل الأمر والنهي تأكيداً منها على الزمن الحاضر، والملفت تماهي تراكيبها بين الإنشائية والخبرية في آن واحد في مواضع “كما في أنا وأنت”:

أنت رجل/يطرق قلبي حين أراه/يقول: أنت النبع الصافي/وأنا: الياقوت في محتواه

أما ورقة النص النثري التي أدرجتها ضمن الصفحات الأولى بما يشبه التوطئة فأضافت جمالية للمجموعة، لتدخل القارئ في لحظة المواجهة بيقظة “هل تاهت روحك في الدروب المجعدة”.

ورغم الوجع المتناثر على قصائدها بتورية وسؤال، إلا أنها اقتربت من الحرب بشكل مباشر بقصيدة حياة “على الرغم من، أن الموت آت من كل صوب” إلا أنها لم تفقد الأمل بالانتصار وبالغد الآمن.

اختزلت سرية العثمان عبْر مياه الفرات المنسكبة على الورق قصة ملايين السوريين الذين اضطروا إلى مغادرة مدنهم وذكرياتهم، فحلّ كثيرون في دمشق التي وجدوا فيها الملجأ والأمان كحال الشاعرة في ديرتي:

جئت من بلدي بلحن أغنيتي/أتوه صباً بذات الجلّق الحسن

وغادر من غادر برحلة الأمواج إلى المجهول، وبقي موقف سرية العثمان على حاله بإصرارها على البقاء في أرض الوطن وأمنياتها بعودة المهجّرين ولقاء الفرات من جديد.

ملده شويكاني