دراساتصحيفة البعث

عالم ما بعد “قمتي بروكسل وكورنوال”.. إطلاق مبادرتي (B3W) / (DIANA) ضدّ الصين، أيّ إرهاصاتٍ؟

د. سومر منير صالح

رفعت الولايات المتحدة الأميركية شعار العودة إلى الأحادية القطبية ولكن بصيغة العمل الجماعيّ مع الدول مع الدول الغربية، وذلك: للحفاظ على هيمنتها على الغرب وإعاقة الشراكة الصينية الأوربية (2020) ولتلافي مآخذ حلفائها الأوربيين عليها في مرحلة الأحادية وأميركا أولاً، وأُعلن عن ذلك ضمن دليل الأمن القوميّ الأميركيّ المؤقت (آذار 2021)، وانطلقت حينها من فرضيةٍ مفادها أنّ الاستثمار الأميركيّ في قيادة العالم، أفضل من استراتيجية “أميركا أولاً” لتعزيز الرفاه والأمن الأميركيين، ولأجل ذلك لابدّ من مواجهة القوى “التحريفية” في النظام الدوليّ، وبدا جلياً أنّ الصين هّي الخطرُ الأكبرُ على الولايات المتحدة ومن ثمّ روسيا، وهو ما أفردت له الوثيقة مساحاتٍ كبيرة.

ومسألة مواجهة الصين ليست بالأمر اليسير ولا تنفع معها وسائل وأساليب واستراتيجيات الحرب الباردة، فبالأصل المشروع الصينيّ لم يُبنَ على استراتيجيات التوازن العسكريّ والردع المتبادل، ولم يقم على مبادئ بناء الجيوش والجيوبوليتيك العسكريّ، بل اتبع وسائل واستراتيجياتٍ (مرنةٍ وذكيةٍ) (مغريةٍ وثقافيةٍ) (محفزةٍ ومُطمئنةٍ)، والأهم من ذلك تركيزه على بيئةٍ (أثقلتها الإمبريالية والرأسمالية) (وكبدتها العولمة النيوليبرالية خسائر جسيمةً)، فكانت الرؤية الصينية لعالمٍ أفضل (متناغمٍ ومتجانسٍ) تستند إلى عمقٍ أنثروبولوجيّ حضاريّ، وعولمةٍ بديلةٍ عن الراهنة، ونمطٍ تجاريٍّ متعدد الأطراف قائمٍ على قواعد متفقٍ عليها، وهو ما لقيّ صدىًّ لدى مجموعةٍ كبيرةٍ من الدول سيما النامية والناشئة منها.

راهناً، تُعرف الاستراتيجية الصينية لعالمٍ متعددُ الأقطاب من خلال وسائلها وهيّ (مبادرة حزام وطريق) ولكنّ المخططون الاستراتيجيون سيما الغربيون يدركون أنّ المبادرة هيّ فقط وسيلةً وأداةً لجوهرٍ أعمق، هو الركيزة الفلسفية لهذا الطموح الصينيّ المتمثل بعقيدة عالمٌ متناغمٌ “”Harmonious world، وهيّ فكرةٌ مستمدةُ من الكونفوشوسية “الوئام بدون توحيد”، وهذا يعني أنّ العالم مليءٌ بالاختلافات والتناقضات، ولكن يجب أن تُوازن ويحقق الانسجام، وفي عام 2007، تم إضفاء المزيد من الطابع المؤسسيّ على سياسة “العالم المتناغم” وقد حدد الرئيس الأسبق هو جين تاو المبادئ الرئيسية لعالمٍ متناغمٍ بأربعة نقاطٍ رئيسية، وهيّ: تعددية الأطراف للأمن المشترك، والتعاون المربح (رابح – رابح) من أجل الرخاء المشترك، والتعايش بين جميع الحضارات، وأخيراً إصلاح الأمم المتحدة، وفيّ العام 2012، طوّر الرئيس شي جين بينغ هذه الفكرة وأطلق شعار “الحلم الصينيّ لعالمٍ متناغم”، بحيث يصبح النظام الدوليّ المتناغم والمتعدد الأطراف بيئةً مناسبةً للتجديد الوطنيّ الصينيّ و”عصرنة الأمة الصينية”، وفي ذات الوقت فإنّ قدرة المجتمع الصينيّ على بناء مجتمعٍ متناغمٍ سيكون مقدمةً لنموذجٍ صينيّ في العالم يتبنى حلّ النزاعات والخلافات من خلال الوسائل السلمية، قائمٌ على مبدأ التشاركية في السّلام والتنمية، وتنوع الحضارات.

إذاً التهديد الصينيّ للهيمنة الأميركية ينطلق من ركيزتين أساسيتين: الأولى، مواجهة الجذر الثقافيّ للهيمنة وهو الأمركة التي تُقر بمركزية الحداثة الغربية، والثاني هو مواجهة الأدوات وهيّ النيوليبرالية المتوحشة، فالمشروع الصينيّ ينطلق من الْإِقْرَارِ بتعددية الحداثات، لا بمركزية الحدَاثَة الَّتِي سمحَت بِمُمَارَسَة هيْمَنَة النموذج سواءٌ الغربيّ عموماً أَو الأميركيّ خصوصاً، وتعددية الحداثات ستكُون الْمدخَل الفكريّ للتعددية القطبية القَادمة، ولتعددية المراكِز فِي سياقِ العولمة.

ومن أجل مواجهة النفوذ الاستراتيجيّ والثقافيّ للصين، أطلقت الولايات المتحدة استراتيجيةً كليّةً لمواجهة الخطر الصينيّ ترتكز على ثلاث ركائز، (الأولى هيّ الرؤية الفلسفية، والثانية الاستراتيجية، والثالثة الأدوات).

الركيزة الأولى هي الرؤية الفلسفية وتتبنى (الصدام الثقافيّ)، والتي تنطلق من مواجهة نموذج الخصم الثقافيّ، فتعمدت الولايات المتحدة تقسيم العالم إلى (متقدمٍ ديمقراطيّ غربي، ومستبدٍ “شرقي”) في إشارة إلى النموذج الصينيّ، وطرح فكرة (التحالفات الديموقراطية) في مواجهة (التحالفات الشمولية)، و(المجتمعات الحرّة المتقدمة) في مقابل (المجتمعات المقيدة) والمغلوب على أمرها، وتهدف هذه الخطوة الأميركية إلى نسف العقيدة الحداثية الصينية والتي تعتمد (الجمع بين مزايا الحداثة والنموذج الاشتراكّي)، وإظهار أنّ الديموقراطية هيّ مسارٌ واحدٌ ومركزٌ واحدٌ (غربيّ)، بعكس ما تروّج له الصين وهو (خصوصية الديموقراطية ونسبيتها حسب الظروف باعتبارها نماذج مختلفة).

الركيزة الثانية هيّ الاستراتيجية وأُطلق عليها إعادة بناء العالم (B3W)، فكما أسلفنا سابقاً فالاستراتيجية الصينية تستند إلى رؤية ومبادرة حزامٍ وطريق (BRI) والتي تستند إلى فكرة إحياء طريق الحرير في القرن التاسع عشر من أجل ربط الصين بالعالم، لتكون أكبر مشروع بنيةٍ تحتيةٍ في تاريخ البشرية، تنطوي على تطوير البنية التحتية والاستثمارات على طول طرق النقل الحيوية للصين بريّاً وبحرياً (2013)، في مواجهة ذلك طرحت الولايات المتحدة (مبادرةً بديلةً) تحت مسمى (B3W أو إعادة بناء عالم أفضل) تم إطلاق المبادرة في حزيران 2021 في اجتماع مجموعة السبع الكبار في كورونال وتحديداً خليج كاربيس في إنكلترا، وهيّ مصممةٌ لمواجهة النفوذ الاستراتيجيّ للصين من خلال توفير بديلٍ لمبادرة الحزام والطريق لتطوير البنية التحتية للبلدان المنخفضة والمتوسطة الدخل بقيادة الولايات المتحدة، حيث ستعمل دول مجموعة السبع على دعم البنية التحتية (للعالم النامّي) بتكلفةٍ إجماليةٍ تبلغ قيمتها 40 تريليون دولار بحلول عام 2035، وتهدف المبادرة إلى تحفيّز التمويل للبنية التحتية عالية الجودة التي تدعم “المناخ والصحة والأمن الصحي والتكنولوجيا الرقمية والمساواة بين الجنسين”، وهدف هذه الاستراتيجية هيّ توفير بدائل للدول النامية عن الخيار الصينيّ، بعد أن تقوم بدعايةٍ مضادةٍ لمقاصده وأهدافه، وتصويره كاستراتيجية هيمنةٍ ونفوذٍ من خلال “دبلوماسية القروض الصينية” التي تهدف إلى إغراق الدول النامية بمشاريع كبيرةً عبر القروض الصينية التي ستعجز عن سدادها لاحقاً، حينها يكون التعامل مع الدول (الديموقراطية ومؤسساتها الدولية) أكثر (يُسراً) من النموذج الشمولي ومؤسساته – وفق الرؤية والدعاية الأميركية).

الركيزة الثالثة هيّ الأدوات انطلاقاً من مبادرة (DIANA)، وفي مقدمة هذه الأدوات هو الذكاء الاصطناعيّ، فالولايات المتحدة الأميركية تدرك جيداً أن العلَاقة بيْن ترتيب الفاعلين الدوليين فِي النِّظَامِ الدولّ وَالتَّأْثِير فِي سِياقِ العولمة علاقةٌ طرديةٌ، مرتبطةٌ بقدرة هؤلاء الفاعلين علَى استِيعابِهَا وَتوجِيه مَسَارها، لذلك، ستغدو الريادة التكنولوجية القائمةُ عَلَى الِابْتِكَار فِي مجالِ الذَّكَاء الاصطناعيّ أحدّ أَهمّ محددات تَرْتِيب الْفَاعِلِين فِي مستقبل النِّظَام الدوليّ، لأنّ البنية الأساسية للعولمة الرَّابِعَة محكومةٌ بثورة الذَّكاء الاصطناعيّ، ومن أجل ذلك طرحت الولايات المتحدة في القمة (31) للناتو(14/6/2021) مبادرةً أُطلق عليها اسم (مسرع الابتكار الدفاعي في شمال الأطلسيDIANA) ، والتي تهدف إلى تسريع التعاون عبر المحيط الأطلسيّ بشأن التقنيات الحيوية وتطبيقات الذكاء الاصطناعيّ، ومساعدة الناتو في العمل بشكلٍ أكبر عن كثبٍ مع كيانات القطاع الخاص والأوساط الأكاديمية وغيرها من الكيانات غير الحكومية، من أجل مواجهة تطبيقات الذكاء الاصطناعيّ للدول الأخرى (التخريبية)، طبعاً هنا الإشارة خفيّةً إلى الصين وروسيا وايران وبقية الدول المختلفة مع أميركا نهجاً وسياسة.

إذاً، وانطلاقاً مما سبق، تنطلق الرؤية الصينية لعالمٍ متعدد الأقطاب من عقيدةٍ حداثيةٍ فريدةٍ (عالمٍ متجانسٍ) وباستراتيجية (حزامٍ وطريق) وذراعها العسكريّ (عقد اللؤلؤ)، وأدوات التنمية المستدامة والذكاء الاصطناعي والعولمة البديلة.

وبذات السياق المواجهة الأميركية مع الصين هيّ بنفس الأدوات وذات السياق، ولكن بمسارٍ مناقضٍ معاكسٍ، انطلاقاً من فلسفة الغرب الما بعد حداثية (مع تعديل يتضمن القيادة الجماعية) للمنظومة الغربية بقيادة الديموقراطية الأميركية ونموذجها، وباستراتيجية (B3W لبناء عالمٍ أفضل) لمنافسة مشروع دعم البنية التحتية للدول النامية الصينيّ (حزام وطريق)، وبأدواتٍ المسّرع الابتكاريّ للناتو لمواجهة النفوذ المتناميّ للصين في عالم الذكاء الاصطناعي (عسكرة الذكاء الاصطناعي)، دونما أن نغفل النهج الأميركيّ والعقلية الأميركية في إدارة الحرب الباردة والمستندة إلى الواقعية (الهجومية والدفاعية) والتي مازالت مستمرةً من خلال افتعال “حزام النار”في محيط الصين الجيوسياسي، وعسكرة جميع الصراعات مع جيرانها، ومحاولة جرّ الصين إلى سباق تسلحٍ..، لذلك المقاربة الجديدة للولايات المتحدة في نهجها ضدّ الصين ترتكز على مقاربات البنائية قبل الواقعية، وهو ما يحتّم على الصين إعادة تصدير نموذجها الثقافيّ بصيغةٍ أخرى، وإدارةٍ نزاعاتها مع جيرانها بطرقٍ أخرى، حتى تستطيع تفويت الفرصة على الطرف الأميركيّ الذي يحاول أن يُحوّل أدوات الصين الجديدة إلى نقاط ضعفٍ في رؤيتها العالمية.