دراساتصحيفة البعث

نيكاراغوا.. الهدف التالي

تقرير إخباري 

تفيد آخر المعلومات أن واشنطن تستعد لمحاولة الإطاحة بزعيم آخر في أمريكا اللاتينية هو زعيم نيكاراغوا، دانييل أورتيغا، ليس فقط من أجل مصالحها الجيوسياسية، وإنما من أجل هدف اقتصادي بحت هو أن الصين وروسيا وإيران يواصلون تعزيز مواقعهم في أمريكا اللاتينية.

في تشرين الثاني المقبل، ستُجرى انتخابات عامة في جمهورية نيكاراغوا، وتعتقد سلطات البلاد اعتقاداً راسخاً أن واشنطن ستسعى إلى إثارة احتجاجات مناهضة للحكومة على غرار ما فعلته في كوبا، والذي فشل نتيجة التعبئة الشعبية الموالية للحكومة.

ولكن لماذا نيكاراغوا هذه المرة؟. لمعرفة الإجابة، لا ضير من التذكير بحقيقة تاريخية هي أن رئيس نيكاراغوا الحالي هو زعيم الثورة الساندينية عام 1979، وهو الذي أنهى عهد الديكتاتور الموالي للولايات المتحدة أناستاسيو سوموزا ديبايل. وقد تمّ انتخابه رئيساً للبلاد أربع مرات متتالية (1984، 2006، 2011، 2016)، ولايزال يتمتّع بشعبية كبيرة وسط سكان نيكاراغوا وخارج الحدود الوطنية، ما أثار قلق وامتعاض واشنطن!.

ومن الواضح أن الوضع التاريخي بعيد كل البعد عن كونه السبب الوحيد لعداء واشنطن القويّ، فهناك دوافع متعددة تكمن خلف هذا العداء. بادئ ذي بدء، ماناغوا عاصمة نيكارغوا هي جزء من المحور السيادي والتقدمي لأمريكا اللاتينية، وتقود سياسة اقتصادية وخارجية مستقلة، وتدين السياسات الاستعمارية الجديدة للولايات المتحدة وحلف شمال الأطلسي. كما تحافظ نيكاراغوا أيضاً على علاقات تحالف ليس فقط مع كوبا وفنزويلا وبوليفيا، ولكن أيضاً مع الصين وروسيا وإيران، التي تعتبر جميعها معارضة لسياسة واشنطن المؤيدة للقطب الواحد ومقاوليها من الباطن.

وبعيداً عن الانتماء إلى المحور متعدّد الأقطاب وكونه معارضاً للغرب الأطلسي، فإن السبب الآخر للقلق الشديد يتعلق ببساطة بمشروع نيكاراغوا المتعلق بإنشاء قناة تربط بين المحيطات، والتي تهدف إلى ربط المحيط الأطلسي (البحر الكاريبي) بالمحيط الهادئ باستخدام بحيرة نيكاراغوا التي يبلغ ارتفاعها 34 متراً فوق مستوى سطح البحر، حيث يمكن أن يصبح هذا المشروع بديلاً رائداً لقناة بنما الشهيرة، والذي لن يظهر عليه أي نفوذ للولايات المتحدة.

هذا المشروع الكبير، الذي تشارك فيه الصين، وتدعمه أيضاً فنزويلا وروسيا، لم يكتمل بعد، ولكن إذا تمّ الانتهاء منه، فسوف يكون للقناة قدرة مرور تصل إلى 5100 سفينة سنوياً، الأمر الذي سيسهل بشكل كبير نقل البضائع ويقلّل إلى حدّ كبير من هيمنة الولايات المتحدة في هذه المسألة. كل هذا في وقت تصرّ فيه الصين كثيراً على مشروعها المتعلق بالطرق اللوجستية الأوروبية الآسيوية والعالمية.

كما سيكون لها تأثير على مجال الطاقة الدولي، حيث تتوقع وكالة الطاقة الدولية زيادة بنسبة 50٪ في استهلاك الغاز الطبيعي المسال بحلول عام 2035. ومن بين أكبر مستوردي هذا الوقود دول مثل اليابان والهند، وهي أسواق استهلاكية لا تريد الولايات المتحدة على الإطلاق رؤيتها وهي تزيد شراكتها في مجال الطاقة مع روسيا وإيران.

وتجدر الإشارة إلى أن 8٪ من إمدادات الغاز الطبيعي المسال عالمياً تمرّ حالياً عبر قناة بنما. ومع ظهور مسار بديل، يمكن أن تنخفض أسعار الغاز الطبيعي المسال بنسبة 10 إلى 15٪. وقد يؤدي هذا بالتأكيد إلى إبطاء التعاون في مجال الطاقة للأسواق الاستهلاكية الرئيسية للغاز الطبيعي المسال، بما في ذلك اليابان والهند مع الولايات المتحدة. في الوقت نفسه، يوجّه ضربة خطيرة لرغبة واشنطن في الهيمنة على سوق الطاقة الدولية، والتي من المحكوم عليها بالفشل بشكل متزايد حتى في أوروبا.

من جهة أخرى، تبدو ماناغوا مستعدة لمنح المستثمرين الصينيين السيطرة على قناة نيكاراغوا المستقبلية لمدة 50 إلى 100 عام، مع العلم أن بكين غالباً ما تعتمد على المشاريع القائمة على المدى الطويل، وفقاً لحضارتها، في مواجهة لعبة البوكر الأمريكية. كما يجب عدم استبعاد ظهور وجود عسكري روسي وصيني دائم في المنطقة، بهدف الإسهام ليس فقط في أمن المشروع المذكور، ولكن أيضاً في إرساء  الأمن والاستقرار الإقليميين بشكل عام. بهذا المعنى، من الواضح تماماً أنه خارج نيكاراغوا، فإن دول أمريكا اللاتينية الأخرى مثل كوبا وفنزويلا وبوليفيا سترى هذا المشروع بعين إيجابية للغاية.

كل هذا يقود إلى القول: إن المقاومة الإقليمية والقارية لأمريكا اللاتينية، والتفاعل الاستراتيجي داخل أمريكا اللاتينية ذات السيادة والتقدم، والتحالف مع القوى الرئيسية المؤيدة لتعدّد الأقطاب في العالم، وهي الصين وروسيا وإيران، فضلاً عن بناء الآليات الاقتصادية واللوجستية التي من شأنها أن تقلّل ليس فقط من التأثير الجيوسياسي ولكن أيضاً التأثير الجغرافي الاقتصادي لواشنطن، ستدفع الأخيرة حتماً إلى محاولة جديدة لإسقاط حكومة أمريكية لاتينية شرعية حتى لو أدّت إلى إغراق البلاد في فوضى عارمة.

ثمّة أمر آخر يثير قلق واشنطن، فبالإضافة إلى القدرة الواضحة على استجابة الدول الرئيسية لمصلحة التعددية القطبية، فإن الأساليب القذرة التي تنبثق من الهياكل الأمريكية، سواء كانت تابعة لوكالة المخابرات المركزية أو الوكالة الأمريكية للتنمية الدولية أو مؤسّسات سوروس، تجد صعوبة متزايدة في تحقيق “النجاحات” نفسها كتلك التي حققتها في الماضي القريب، وذلك بسبب المقاومة غير المسبوقة من الشعوب المستهدفة من قبل هذه الاعتداءات الغربية.

ووجود أمثلة في أمريكا اللاتينية مثل بوليفيا، وفنزويلا، وبيرو، أو حتى كوبا في الآونة الأخيرة، يؤكد ذلك، فالتعبئة الشعبية والمجتمع المدني الحقيقي يمثلان في الوقت الحاضر سداً منيعاً أمام المؤسّسة الأطلسية. وبتكرار الأنماط غير الفعّالة، ستسرع واشنطن من انتقالها من كونها قوة دولية عظمى إلى قوة إقليمية، على غرار فترة الحرب الأهلية.

هيفاء علي