الصفحة الاخيرةصحيفة البعث

أحيوا هذه الطّبَقة

عبد الكريم النّاعم

من أبرز ما أفرزته عشْريّة النّار والخراب ذلك الزلزال الاجتماعيّ الذي أحدث هوّة عميقة خطيرة بين الذين يملكون المال، ولا تتجاوز نسبتهم العشرة بالمائة، وبين الشرائح الاجتماعيّة الفقيرة والمُفقَرة، والتي تشكّل نسبة تسعين بالمائة، ورافق، وسيرافق ذلك، الكثير من مفرزات الأمراض الاجتماعيّة، وخلخلة التّماسك الاجتماعي، والأُسَري، وبالتالي الأخلاقي، فإذا طالتْ مثل هذه الأزمنة فسيكون لها تأثيراتها السلبيّة على مستقبل التربية البيتية والمدرسيّة، ومثل هذا الهدم لا يُرمّم بسرعة ترميم الأبنية السكنيّة، بل ستنسحب آثاره السلبيّة على عدّة أجيال، ونحن أحوج ما نكون إلى أزمنة تُحرَق فيها المراحل طلباً للوقوف على قدمين راسختين، والذي أعنيه “الطبقة الوسطى” الحامل النّوعي للحراك الاجتماعي الفاعل، وهذا أمر معروف قبل الماركسيّة وبعدَها، وقد أشار إليه عالم الاجتماع ابن خلدون، ولقد لفتَني قول يصبّ في هذا الاتّجاه لمحمد كرد علي، في كتابه “خطط الشام” الجزء السادس، حيث توقّف كمؤرّخ وكعالم اجتماع، يحلّل ويصف طبقات عصره -القرن التاسع عشر، وبداية العشرين- مارّاً بتفاصيل لم تترك مزيداً لمستزيد، وبجرأة العالم وحِذْقه، ووقف عند هذه الطبقة فقال عنها:

“ولا يفوتنّك أنّ الطبقة الوسطى في ديارنا هي التي تتمثّل فيها الأمّة حقيقةً لا مجازاً، ويكثر فيها الخير ويقلّ الشرّ، وهي التي تقوم بجلب المنافع ودرء المضارّ، وتعيش في خوف الديّان، وتهتمّ لسعادة الأوطان هي في الغالب محدودة بعقول أبنائها، كثيرة بما يتمّ على أيديها من الخيرات باجتماعها، وهي التي تفكّر وتقدّر، ولقد قام كثير من الأعمال النّافعة بصنيعها ومن وضْعها، فيهم الصبر، وفيهم الأناة، وفيهم الرحمة، خسيسهم أقلّ من رفيعهم، هم قوّة الظَّهر في جيش الأمّة بل في طليعته المُتيقّظة، السخاء مغروس في أكثرهم، والمروءة والوفاء غريزتان يورثهما الآباء لأبنائهم، وهم يبعدون عن أرباب السلطات، دأْبهم التوفّر على صناعاتهم وزراعاتهم، وقلّما تحدّثهم أنفسهم أن يتّخذوا بديلاً عن عمل عاناه آباؤهم وأجدادهم، الأخلاق التي تعبث بالفضائل هي التي رسختْ في بعض العلْيَة من أهله، وشهد الله أنّ هذه الأمّة لا تشكو من قلّة علمها بقدر ما تشكو من ضعف أخلاقها، وإذا أخذت المطامع البشعة من قلوب دعاة الإصلاح وحماة الحوْزة، كيف يُوجَّه اللّوم على مَن كان دون طبقتهم؟ وممّا يسوء أنْ كان أقرب الناس إلى إدراك معنى الفضائل أسرعهم إلى عقوقها وانتهاك حرماتها، وإذا كانت في الطبقة الوسطى هَنات لا يخلو منها إنسان فهي كالعوْذة يُتّقى بها شرّ الحاسد، ويُصان بها جمال المكرمات والمَحامد، وقلّما يخلو بشر من عيوب صغيرة ضررها على صاحبها وحده”.

مَن يدقّق في الكلام السابق يجد أنّ الاختلافات طفيفة، وأنّ معظم ما جاء في هذا النصّ يصلح لزمان مُنشئه وأزمنة مَن يجيئون بعده، وتلك سمة مقولات علماء الاجتماع في التعميم، وفي الاستنتاج المبنيّ على الملاحظة الدقيقة، والمراقبة الذكيّة.

إنّ إحياء الطبقة الوسطى شرط في أيّ نهوض يُراهَن عليه، لأنّها أساس نوعيّ في البنيان الاجتماعي والأخلاقي والتربوي والاقتصادي، ولعلّ مَن يرى أنّ هذه الطبقة ستستعيد حضورها بالتدريج حين يُبدَأ بالإعمار في سوريّة، وقد يساعد على ذلك مباشرة استثمار النفط والغاز الموجود في البحر، بمعنى أنّ الحراك الاقتصادي المدروس الذي ينظر للمصلحة الاجتماعيّة سيكون عاملاً حاسماً في عودة هذه الطبقة للعب دورها التاريخي، مدركين أنّ استمرار الخلل، وتمدّد العقليّة الطفيليّة لن يفيد منه إلاّ الفاسدون، والنهّابون، والذين أثروا إثراءً فاحشاً بطرق ملتوية، التشخيص معروف، والدواء موصوف، وليس إلاّ المبادرة.

aaalnaem@gmail.com