دراساتصحيفة البعث

محرك النجاح الصيني

هيفاء علي

بعد مائة عام على تأسيس الحزب الشيوعي الصيني في تموز 1921، تحوّل النجاح الباهر الذي حقّقته الصين إلى أنموذج يُحتذى على المستوى العالمي. وعلى مدى الثلاثين عاماً الماضية، ضاعف الصينيون ناتجهم المحلي الإجمالي، وتغلبوا على الفقر، ورفعوا المستوى التكنولوجي للبلاد بطريقة أذهلت العالم أجمع.

شرعت الصين تخطو خطوات كبيرة نحو بناء “مجتمع متوسط الدخل”، وتطوّر سوقها الداخلي، فمن خلال جذب رأس المال والتكنولوجيا، عزّزت الإصلاحات في فترة ما بعد حكم الماويين النمو، حيث تمت قيادتها على أعلى مستوى في الدولة وتمّ تنفيذها على ثلاث مراحل. بدأت المرحلة الأولى بالزراعة عام 1979، حيث تمّ تسريع العملية عندما تمّ رفع الحظر المزدوج على المزارع العائلية ذات السعر الثابت وتوزيع الأراضي بين الأسر. وفي آذار 1981 تمّ اتخاذ خطوة حاسمة عندما دعا التوجيه المركزي المجتمعات الزراعية إلى اعتماد أساليب الإنتاج المناسبة للسياق المحلي. وفي نهاية عام 1983 تبنّت معظم عائلات الفلاحين صيغة الزراعة العائلية بحيث بقيت الأرض خاضعة لنظام الملكية الجماعية، ولكن يتمّ توزيعها تعاقدياً على الأسر بهدف استغلالها.

أما المرحلة الثانية من الإصلاحات، فقد استهدفت -خلال الأعوام 1980-2000- القطاع الصناعي حيث شهد انفتاح الاقتصاد الصيني، من إنشاء مناطق اقتصادية خاصة إلى دخول منظمة التجارة العالمية، تدفقاً في الاستثمار الأجنبي. هذا الانفتاح ساهم في ارتفاع الاستثمارات الأجنبية المباشرة.

وشهدت المرحلة الثالثة من الإصلاحات، في الأعوام 2001-2021، عودة قوة الدولة المستثمرة، وهي سياسة استباقية تعطي الأولوية للسوق الداخلي وتحديث البنية التحتية، حيث تمّ اعتماد خطة “صنع في الصين 2025” في عام 2015، وهي تسرع من صعود اقتصاد ذي قيمة مضافة عالية.

واليوم يعتمد النمو الصيني على التقنيات الرقمية، وتكنولوجيا المعلومات، والطاقات المتجددة، والذكاء الاصطناعي، والمركبات الكهربائية. ولتنفيذ هذه السياسة، حررت الصين نفسها من “إجماع واشنطن” ومعتقداته الليبرالية، أي خصخصة القطاع العام، وتحرير الأنشطة المالية، والتخلي عن الدولة لمصلحة الشركات والمؤسسات غير الوطنية مثل صندوق النقد الدولي والبنك الدولي. وعلى العكس من ذلك، عزّز القادة الصينيون قطاعاً عاماً قوياً تتواجد شركاته في كل مكان في مواقع البناء الكبرى داخل الصين وخارجها. وبالتالي، باتت الدولة الصينية، بقيادة الحزب الشيوعي، ليست أداة سهلة الانقياد للأوليغارشية المالية المعولمة، ولا المنفذ لبرجوازية جديدة غير مبالية باحتياجات الشعب. إنها دولة ذات سيادة ولها مهمة إستراتيجية تتمثل في جعل الصين دولة مزدهرة.

في المقابل، وفي أوائل العقد الأول من القرن الحادي والعشرين، اعتمدت واشنطن على التكامل الاقتصادي للصين لتعجيل تحللها السياسي، وكان على الصين أن تحقق نبوءة النيوليبرالية من خلال إزالة آخر عقبة أمام هيمنة رأس المال المعولم. ولكن حدث العكس، فقد استخدمت بكين الشركات متعدّدة الجنسيات لتسريع تحولها التكنولوجي وانتزاع مكانة واشنطن القيادية في الاقتصاد العالمي.

خلال أزمة عام 2008، وفي مواجهة الفوضى التي سبّبها تحرير الليبرالية الجديدة، أثبتت واشنطن أنها غير قادرة على تنظيم التمويل لأنها كانت أسيرة الأوليغارشية المصرفية، واكتفت بتوسيع العجز العام من أجل إنقاذ البنوك الخاصة، بما في ذلك تلك التي كانت مسؤولة، بجشعها اللا محدود، عن الركود العام. على العكس من ذلك، تحمّلت بكين مسؤولياتها من خلال القيام باستثمارات ضخمة في البنية التحتية العامة، وبذلك حسّنت الظروف المعيشية للشعب الصيني مع دعم النمو العالمي، وإنقاذها من الانهيار الذي وعد به جشع وول ستريت.

وبحسب محللين ومراقبين، فإن القول بأن الصين أصبحت “رأسمالية” بعد أن كانت “شيوعية” هي وجهة نظر ساذجة للعملية التاريخية، ووجود رأسماليين في الصين لا يجعلها “دولة رأسمالية”، وإنما تمّ حقن جرعة قوية من الرأسمالية لتطوير القوى الإنتاجية، وبقي القطاع العام العمود الفقري للاقتصاد الصيني، وهو يمثل 40٪ من الأصول و50٪ من الأرباح الناتجة عن الصناعة، ويسود بنسبة 80-90٪ في القطاعات الإستراتيجية.

الصين اشتراكية بالتأكيد وفقاً لتعريف الاشتراكية على أنها نظام تمتلك فيه الجماعة الوسائل الرئيسية للإنتاج وتستخدمها بطريقة تجعل النتيجة تحسناً مستمراً في الظروف المعيشية للسكان. ولتحقيق هذا الهدف، طوّرت الصين اقتصاداً معقداً، يشارك فيه عدد كبير من المشغلين في القطاعين العام والخاص، وهو اقتصاد مختلط حقيقي، يوضع تحت وصاية دولة تمتلك ثلث الثروة الوطنية التي توجّه النشاط الاقتصادي وفقاً للمبادئ التوجيهية التي تحدّدها الخطة الخمسية، التي تشكل جزءاً لا يتجزأ من الحزب الشيوعي، الضامن التاريخي للتنمية طويلة المدى.

واليوم، يبلغ الفائض التجاري للصين 2٪ من الناتج المحلي الإجمالي، والسوق المحلي مزدهر، أما الغربيون الذين يتصورون أن الصين تعيش على صادراتها سيكون من الأفضل لهم أن ينظروا إلى الأرقام، فالصين تعتمد على التجارة الخارجية بمقدار النصف مثل ألمانيا أو فرنسا. على عكس الاتحاد الأوروبي، شهد الصينيون زيادة متوسط أجورهم ثمانية أضعاف في عشرين عاماً.