دراساتصحيفة البعث

هل ستنسحب الولايات المتحدة من العراق فعلاً؟

محمد نادر العمري

في زيارة هي الثانية لمسؤول عربي إلى البيت الأبيض بعد تولي جو بايدن مهام الرئاسة، تم الإعلان، وبحضور رئيس الوزراء العراقي مصطفى الكاظمي، عن انتهاء المهام القتالية لقوات الاحتلال الأمريكية وتحوّلها لقوات استشارية, وكان هذا الإعلان مجرد حركة تكتيكية للالتفاف على مطالب الشعب العراقي بالانسحاب, والدليل على ذلك أن تغيير مهام القوات الأمريكية لا يعني انسحابها، بل هي وسيلة جديدة للحفاظ على التواجد الأمريكي في العراق تحت مسمى آخر.

بالعودة للماضي القريب، احتلت الولايات المتحدة الأميركية العراق رافعة مشروع “تجريد العراق من أسلحته النووية” ومن ثم “تغيير النظام  ونشر الديمقراطية فيه”، ثم تحول هذا المشروع إلى مكافحة الإرهاب حين غرق العراق في بحر من الدم الذي أمّنت ظروفه قوات الاحتلال، ثم تحولت بعد ذلك، لتبني إستراتيجية مكافحة الإرهاب والاضطلاع بما سمي مهمة محاربة تنظيم “داعش” واحتواء إيران على السواء. وفي المرحلة النهائية لوحظ إعادة التموضع الأميركي في الساحة العراقية بعد بلوغ التصعيد ذروته باغتيال قائد “قوة القدس” قاسم سليماني ونائب رئيس هيئة الحشد الشعبي أبو مهدي المهندس، وكان ذلك عند استلام الكاظمي الحكومة العراقية، في عهد حقبة الرئيس ترامب.

بالتزامن مع ذلك سعت الولايات المتحدة الأميركية لدفع لاعبين آخرين إلى الواجهة في الساحة العراقية إما لتنفيذ سياستها المتمثلة بزيادة عدد قوات الناتو وتغيير بعض المهام لها، وإما لتطبيق سياستها ولو بطريقة غير مباشرة عبر توطيد علاقة واشنطن مع إقليم شمال العراق ورئيس الوزراء الكاظمي وتفريغ الاحتقان العراقي عبر إعلان الحوار الاستراتيجي بين بغداد وواشنطن ضمن مراحل أطلقت منذ ما يزيد عن عام.

ولترجمة هذا السلوك الفعلي وترجمته الميدانية قامت قوات الناتو عبر زيادة قواتها في العراق من 500 جندي إلى 4 آلاف وتوسعة مهامها وصلاحياتها, لتمثل التطبيق الفعلي لمناورة تستفيد منهما الولايات المتحدة الأميركية للبقاء في العراق والقيام بما تريده تحت غطاء الناتو واسمه ومهامه.

ومن المؤشرات التي تدل دوافع بقاء التواجد الأمريكي في العراق, يمكن استدلال أحد حقائقه في المحاضرة التي ألقاها قائد القيادة المركزية الأميركية الجنرال كينيث ماكينزي في مركز الإمارات للدراسات والبحوث في تشرين الأول2020، أكد من خلالها أن الضرورات التي توجب بقاء القوات الأميركية في العراق هي ما سمّاه “الخطر الإيراني،  وحماية حركة النفط العالمية في منطقة المتوسط”، حسب تعبيره.

هذه العناوين تعلن من مركز أبحاث وضمن محاضرة وليس على وسيلة إعلامية وهو ما يؤكد مساعي الإدارة السابقة وحقيقة أهدافها الجيواستراتيجية في العراق والمنطقة، بينما أعلنت الإدارة الأميركية الجديدة أكثر من مرة أن تهديدها الأكبر إنما يتأتى من الشرق الأقصى – روسيا والصين- الأمر الذي سيفرض عليها التخفيف من حدة بعض الساحات وسخونتها، وخصوصاً في الشرق الأوسط.

بمعنى آخر أن الولايات المتحدة الأمريكية لن تقدم على تقديم تنازلات في الملفات الساخنة والتي تشكل أحد ساحات الصراع الهامة منذ عقود، ولكن في ذات الوقت تريد تخفيف حجم خسائرها التي أخذت بالتصاعد في الفترة السابقة نتيجة الضربات الموجعة لحركات المقاومة ضدها بعد تبني محور المقاومة إستراتيجية إنهاء الوجود الأمريكي في المنطقة، ولكن هذه المناورة تهدف لاحتواء الموقف التصعيدي لحركات المقاومة وتجميده على حاله واحتواء الاحتقان الشعبي للتفرغ للصراع الأكبر في مواجهة النفوذين الروسي والصيني، ضمن الحسابات التي تحددها أولويات الأمن القومي الأميركي.

وهذا الحال ينطبق خلف القرار الأمريكي وأبعاده من الانسحاب من أفغانستان، فالواقع والتجربة تدلان أنه ليس من النمط الأمريكي والمتعارف عليه خلال العقود السابقة، وبصورة خاصة منذ نهاية الحرب العالمية الثانية وبداية الحرب الباردة، رفع العلم الأبيض والاستسلام، بل تسعى وفق سلوكها نحو فرض القوة عبر الحروب والغزو العسكري، وفي حال الفشل تسعى لتكريس الفوضى وترك الجميع يغرق في مستنقع الاقتتال والفراغ السياسي الداخلي وحروب الوكالة، وتعود لتقديم نفسها كمنقذ للدول والشعوب، وهو ما حصل في التجربة مع العراق بعد قرار الانسحاب في عام 2011، ولعل تعبير الرئيس الأمريكي السابق دونالد ترامب، بقوله : “إن الولايات المتحدة الأمريكية ومنذ حرب فيتنام لم تحقق أي انتصار عسكري… ولكنها حققت انتصارات سياسية”.