الصفحة الاخيرةصحيفة البعث

خطّة أمريكا الحديثة

عبد الكريم النّاعم

ذكرتُ في مقالة سابقة ما قرأته عن تسريب خطّة أمريكا الحديثة في الحرب ضدّ أيّ بلد تصنّفه على أنّه بلد مُعادٍ، وجاء ذلك في محاضرة لأحد كبار جنرالات أمريكا بحضور جنرالات إسرائيل، وأهمّ منظّريها الاستراتيجيين، وخلاصة ما سُرّب أنّ أمريكا لم تعد بحاجة لحروب الجيوش المكلِفة، والتي تعني خسارات في العتاد والرجال، وربّما قد تؤدّي إلى نتائج كارثيّة، وهي بدلاً من ذلك تعمد إلى إشعال العديد من الحرائق في البلد المُستهدَف، بحيث تنشغل قيادة ذلك البلد بالمسارعة إلى إطفاء الحريق، وقبْل الوصول إلى مرحلة تبريد الحريق، يجري إيقاد أكثر من حريق في مناطق متفرّقة، وهكذا يُصبح دور الدولة المستهدَفة الجري خلف الحرائق التي لا تنتهي، وبذلك تضمن واشنطن استمرار حضورها حيث ترغب، بعيداً عن احتمالات المقاومة التي كلّفتْها كثيراً في أكثر من منطقة من مناطق العالم.

مَن يدقّق النّظر في الخطة يجدها متدحرجة على مستوى المنطقة، ولاسيّما الوطن العربي، فتعطيش الناس والأرض لتُصبح جرداء لا نفع منها جارٍ بشكل واضح لا غموض فيه، وأهمّ مظهرين لهذه الخطّة ماثلة في قطع مياه نهر الفرات عن سوريّة والعراق، خلافاً لكلّ المواثيق الدوليّة المتعارف عليها، كما يتجسّد في مسألة تعبئة سدّ أثيوبيا على حساب مصر، التي حين تفقد جريان نهر النّيل بما يكفي فستتحوّل إلى صحراء.

على مستوى وطننا سوريّة تمكّن الغازي الأمريكي من احتلال شمال الجزيرة التي كانت خزّاناً للحبوب وللنفط، وهو يلوّح بإقامة كيان انفصالي، حتى وإن أغضب ذلك الحليف الاستراتيجي له في المنطقة أردوغان، ويبدو أنّ غضب مثل هذا مقدور عليه فهو ليس أكثر من مفصل صغير في الآلة التي تديرها واشنطن.

على مستوى لبنان الحرائق، واستعصاءات السياسة تتناسل.

لقد تمكّنت سوريّة بتضحيات أبنائها، وبطولاتهم النّادرة من كسر الخطّة الأمريكيّة عليها، والتي كانت تهدف إلى إسقاط النّظام السياسي، وإقامة العديد من الدويلات الطائفيّة والمذهبيّة والعرقيّة، وتمّ تحرير سبعين في المائة من الأرض التي سيطر عليها في البداية جماعة الإخوان المسلمين، والدواعش والنّواهش ومَن لفّ لفّهم، واستطاعت الخطّة الجديدة أن تُجمّد الأمور عند هذا الحدّ، ولو لوقت لا ندري زمنه، فمشروع إعمار ما تهدّم في المدن مجمّد لظروف متشابكة، لعلّ في مقدّمتها أنّه مشروع كبير يحتاج إلى دول كبرى قادرة على الإعمار والإنجاز، وهذا غير متوفّر الآن بسبب ظروف دوليّة متداخلة ومعقّدة، وينسحب هذا القول على استثمار الغاز والبترول الموجودين في سوريّة بكمّيات يُقال إنّها كبيرة.

في هذه الأثناء، وفي هذا الزمن الخطير، المشحون بالمرارة، وكنتيجة لتلك الحرب الكونيّة الظالمة تفشى الفساد والإفساد، وصار ظاهرة تبدو وكأنّها قد ضربتْ جذورها في العمق، من رشوة، إلى سرقة، إلى انتشار الوسائل المدمّرة التي تؤدّي إلى تخريب الاقتصاد، والأخلاق العامّة، وتُخيّم بسوادها حتى ليبدو الأفق وكأنّه مُقفَل، وهذا شيء خطير جداً، لذا لا بدّ من المسارعة إلى ابتكار خطط صارمة وحازمة لإيقاف هذا النّزيف، وهذا يحتاج إلى عمل يُشبه المُعجزة، وعمل كهذا لا يستطيع القيام به، والنّهوض بأعبائه إلاّ رجال مؤهّلون، يتصفون بالنزاهة بالدرجة الأولى، لأنّه لن يكون نهوضاً في قطاع محدّد، بل إنّ نتائجه ستشمل حتماً جميع قطاعات الحياة.

لعلّ هناك مَن بلغ به اليأس درجة الإعراض عن هذا الكلام، وقد لا يُلام في ذلك، بيد أنّه لا بدّ من التأكيد أنّه أمر ممكن، وغير مستحيل، ومَن راقب كيف كانت بداية الحريق وكيف انتصر عليها شرفاء هذا الشعب يتحقّق من صدق هذه المقولة.

aaalnaem@gmail.com