ثقافةصحيفة البعث

فنّ الإيجاز

إن حدث وتأملت يوماً الصعوبات التي واجهها غوستاف فلوبير عندما كتب “مدام بوفاري”، وأخذت تتصفّح الكتب والمواقع الإلكترونية لتنهل منها ما استطعت من معلومات، لربما صادفت مقالاً أو أكثر للكاتبة ليديا ديفيس، التي اشتهرت بترجمة أعمال فلوبير ومارسيل بروست، ولربما قرأت اقتباس ليديا للكاتب فلوبير لدى اعترافه لحبيبته الشاعرة الفرنسية لويس كوليت، إذ قال “ليست البساطة سهلة المنال”، ويمكننا أن نضيف: “ولا حتى الإيجاز”.

والإيجاز أمر أتقنته ديفيس، فهي كاتبة قصص مشهورة، وصلت فيها البراعة لأن تكتب قصصاً لا تتعدى الفقرة، وأحياناً جملة واحدة، وكل قصة من قصصها مثال ساطع عن الإيجاز الأقصى، وهو ما دعاه الناقد البريطاني كريستوفر ريكس بـ”الحذر في كتابة كل كلمة أو كل مقطع لفظي”. ويتضحُ هذا الحذر عند ليديا ديفيس في مقال لها بعنوان “تنقيح جملة واحدة”، وصفت فيه كيف بدأت يومها بسعادة، وقرّرت أن تكتب عنه:

“تجولت هذا الصباح في منزلي بسعادة وأنا أشعر بالدهشة مما أفعله، في الحقيقة أغرتني إيماءة قمت بها مصادفة، لكن هذه الإيماءة بالتحديد ألهمتني لكتابة جملة تصف ما كنت أفعله تواً”.

واحتارت أتكتبُ ما كانت تفعله بصيغة المتكلم أم بصيغة الغائب. وأدركت حينئذٍ أنها تكتب بصيغة المتكلم إن كانت هي محور الحدث. أما إذا كان الحدث هو المهمّ، فتكتب بصيغة الغائب، ثم تقول ديفيس: “أستخدم نفسي مصدراً للمواد، وأشعر براحة أكبر بالكتابة بصيغة الغائب، لأني عندئذٍ لا أعترض سلوك الشخصية التي قد تتطور في الحدث المذكور، (أحياناً يميل الضمير “أنا” في القصص لأن يصبح “هو” – وهنا يشير الضمير “هو” إلى رجل أنثوي وديع يحمل صفات أنوثة وذكورة، لكن في الآونة الأخيرة بات الـ”أنا” يشير عادة إلى الـ”هي”).

وتتحدث ديفيس عن دفتر مذكراتها اليومية الذي تكتب فيه الأفكار الطارئة، وكيف تستخدمها في كل عمل، بمعزل عن جودته، وهذا بحدّ ذاته يقودنا إلى استنتاجِ أن الكتّاب لديهم بعض الأفكار العابرة وقصص لا تقود إلى شيءٍ، وهذا جزء من مزاجية تسربل حياة الكاتب بمراحل عمله كلها: “توجهت إلى دفتر مذكراتي الذي أستعين به عندما أجنح نحو التخييل استناداً إلى أفعالي اللحظية الآنية وأترجمها بجملة وصفية مختصرة تشي بأحاسيس عميقة الدلالات”.

وفي هذا المقال، تتناول ديفيس هذه الجملة، وكيف ظلت تضيف وتجتزئ منها إلى أن وصلت إلى صيغة مرضية: “لذا دوّنتها ثم نقحتها فوراً.. وأريدها أن تكون مضبوطة على نحو صحيح. سأظل أعمل عليها حتى تصبح مضبوطة تماماً، سواء أكانت ملاحظتي للإيماءة مهمة أم لا، وسواء اعتقدت أني سأستعملها يوماً أم لا. في الواقع، لا أستخدم عادة تدوينات مذكراتي في قصة إلا إذا تحوّلت التدوينة إلى قصة.. لأن قصصي مكتوبة لتقرأ بنَفَسٍ واحد، ولا تنجح إن بدأت بتجميعها معاً”.

وتبيّن ديفيس أن مذكراتها منبع قصصها، وتمتلك فيها مطلق الحرية في تعديلها، لذا “لست خائفة، إذ ليس بإمكانك أن تكتب ببراعة –بل ليس بإمكانك أن تنجح في عمل أي شيء- إن كنت تشعر بأنك محاصر”.

تارة تمسي تدوينة الدفتر قصة، وتارة أخرى، لا تعدو جملة واحدة أو أكثر ولن تتعدى ذلك، على الأقل في المستقبل المنظور، وهنا تشرح لنا ليديا ديفيس كيف وصلت بجملتها إلى صيغة نهائية مرضية: “تجوّلَت في منزلها وكانت تسير برشاقة وحيوية على رؤوس أصابعها وتحلّق مع دندنة وهمس فرح لا ينضب، وتارة تتحدث إلى نفسها، وأحياناً تتسمّر بوضعية المبارز”.

وتصوّر لنا الكاتبة مراحل تطور الجملة من بدايتها في سياق ووحدة نصية تأخذنا إلى أقصى درجات الولوج في عمق الحالة عندما رافقناها في أول جولة في منزلها وهي تسير برشاقة على رؤوس أصابعها.

من ثمّ تأخذنا مرة أخرى إلى توصيف في غاية الدقة، وتسلّط الضوء على إيقاعات وحركات وإيماءات لها أبعاد ودلالات حسيّة، كما ذكرت أشياء لا توحي أنها سعيدة كإيقاعها البطيء في البيت إضافة إلى توصيفات أخرى لا تستدعي شرحاً أكثر.

وهنا، بحسب الكاتبة إفراط في وصف الفعل، ولسان حالها يقول: أعلم أن الجملة يجب أن تنتهي بـ”وضعية المبارز”، فهي الصورة النهائية اللافتة، وهي ما دفعني إلى تدوين الجملة في الأساس، كما أنها عبارة قوية وانزياح في شكل الصورة المومى إليها.

علاء العطار