الصفحة الاخيرةصحيفة البعث

لا.. لثقافة المصادرة!

حسن حميد

أتابع بحرص شديد الحوار الفعّال والحيّ الدائر بين مختلف الشرائح والشخصيات وأهل الرأي (أصحاب الاختصاص) حول مختلف الشؤون والقضايا العامة والخاصة والكبيرة والصغيرة في بلادنا، ومنها ما يتعلّق بالحياة الاجتماعية، والاقتصادية، والسياسية، والثقافية، وأرى في هذا الحوار إيجابيات كثيرة، لعلّ في طالعها الغيرة تجاه كل ما يتعلّق بالإنسان (وهو كثير)، وبالوطن (وهو كثير)، حتى لتبدو الحياة دائرة كبيرة، نصفها الأول يمثّل الإنسان وشواغله وأحلامه، ونصفها الثاني يمثل الوطن وشواغله وأحلامه أيضاً؛ وإيجابيات هذا الحوار تتمثّل في التفاعلية التي تؤكّد ثنائية الفعل وردّة الفعل، والتبادلية بين الطرفين، أعني ما كان فعلاً يغدو ردّة فعل، وما كان ردّة فعل يغدو فعلاً، والحق أنّ نتائج الحوار ليست بادية أو لنقل ملموسة على نحو عياني مباشر، ولكنّها نتائج تشير إلى أنّ الوعي والانتماء هما ما يمثّل القلب ودقّاته، أو الطريق وخطاه، أو النفس وأحلامها، صحيح أنّ الكثير من المرتجى لا يتحقق واقعياً، ولكن يكفي الحوار فضيلةً أنّه جمع الناس على أمر عام أو شأن عام لهذا تصادت الآراء وتعدّدت، وهذا يدلل يقينياً على أنّ مسافة الوعي بين الشرائح الاجتماعية متقاربة جداً، على الرغم من المسافة الشاسعة التي تشير إليها الأحوال الاقتصادية على سبيل المثال.

ولكن للحوار سلبياته أيضاً، على الرغم من هذه الحيوية والعافية في قدح الآراء واشتقاقها، وبعضها هين وبسيط، ولكن بعضها مسيء جداً، ومن ذلك ثقافة المصادرة! أي ردّ الآراء كلية، وعدم تمييز أبيضها من أسودها، أو صالحها من طالحها، أي ردّها على نحو دوغمائي من قبل محاورين لا يتركون شقّاً لهواء أو ضوء!.

إنّ مصادرة رأي الآخر وإغلاق الأبواب والنوافذ بوجهه أمر مرفوض، وعدم الإيمان بقابلية الحوار مع الآخر أمر مرفوض أيضاً، لأنّ أهمية الحوار تتبدى في التفاعل الذي يؤدي إلى نتائج ومشتركات بين جهات مختلفة أو آراء مختلفة، وفي هذا غُنم كبير.

إنّ ثقافة المصادرة تشبه ثقافة استعلائية أخرى هي ثقافة عدم الإقبال على المراجعة أو عدم القبول على الاعتذار، أي التخلّص من الظن أو الاعتقاد بأنّ الاعتذار ضعف وانحناء!.

أقول كل هذا لأنّ الآداب والعلوم والفنون تطوّرت وتقدّمت بالحوار، فالتجارب في المخابر العلمية واللغوية حوار، والمناددة بين الدراسات في مراكز الأبحاث هي منافسة في الحوار، وكل ما حققته الفنون التشكيلية والسينمائية والموسيقية والمسرحية والغنائية هو أشبه بالحوار الحيّ بين مدارسها واتجاهاتها، وهكذا هي حال الفلسفة وما تنطوي عليه من أفكار وتصورات، لا بل هذه هي حال العلوم في تعاونها واستفادة بعضها من بعضها الآخر وعلى نحو يكاد يكون ثراء عجيباً، وهذا ليس خاصية أمّة من الأمم أو شعب من الشعوب، إنّه خاصية إنسانية، فالحوار طوّر العلوم والآداب والفنون التي هي مرآة الحضارة، لأنّه وجه من وجوه المثاقفة بين الشعوب، مثلما هو وجه من وجوه المشاركة الحيّة داخل البلد الواحد، أي هو التمثيل الأجمل لمعنى التشاركية، ومعنى الديموقراطية، ومعنى الإحساس بالإنسانية احتراماً للعقل والعواطف معاً، والحوار، كما هو ملاحظ، متعدّد الصور والأنماط والأشكال، فهو الكتب طوراً، والعمارة طوراً آخر، والصناعة والزراعة طوراً ثالثاً، وهو الاكتشافات لأسرار الكون طوراً رابعاً، وهو الصادات لكل ما يواجه الروح الإنساني طوراً خامساً.

الحوار ضرورة بشرية للحياة، إنه أشبه بالهواء الذي نحتاج إليه جميعاً، صغاراً وكباراً، أغنياء وفقراء، ولكن له مقتضيات، وموجبات، أي له ثقافة تعني، أول ما تعنيه، الاعتراف بالآخر، الاعتراف بعقله وأحلامه، والاعتراف بإنسانيته، ومن ثمّ، وهذا الأهم، الاعتراف بحقّه في الحياة ورسم طرقها وفضاءاتها التي تليق به، وهجر (ثقافة المصادرة) لأنها فعل من أفعال الجهل والاستعلاء والهزء بالآخر.

Hasanhamid55@yahoo.com