دراساتصحيفة البعث

حرب أمريكية جديدة ضد روسيا والصين وإيران.. معبرها أفغانستان الطالبانية

محمد شريف الجيوسي

دخلت حركة طالبان العاصمة كابول بيسر كبير، واستولت على القصر الرئاسي والمطار الدولي وكل مفاصل السلطة، وصدرت عنها جملة تصريحات تطمينية موجهة للداخل الأفغاني وللخارج الإقليمي والدولي، كأكثر ما تكون عليه الدول تحضراً وديمقراطية ودبلوماسية وسلمية (!!) بما يبعث على الاعتقاد بأن انهيار دولة وقيام أخرى على أنقاضها بهذه العجالة، خلال 10 أيام، لا يمكن أن يكون مصادفة بعد 20 سنة من الاحتلال الأمريكي الناتوي، وحروب ممتدة استغرقت عقوداً.

ولا يقارب هذا الانهيار السريع والجهوزية البديلة، إلا انهيار بعض دول المنظومة الاشتراكية، مطلع التسعينيات، كرومانيا وألمانيا الديمقراطية، أو استسلام أمريكا في نهايات حرب فيتنام.. أو احتلال العراق سنة 2003.

لقد بدأت الولايات المتحدة الأمريكية خطة انسحاب سريع من أفغانستان، بعد توقيعها اتفاق مغادرة، في شباط 2020، خلال 20 شهراً، دون أن تتأكد من عدم قدرة الحكومة الأفغانية الموالية لها على السيطرة على كل أفغانستان، بعد الاحتلال الأمريكي لعقدين من الزمن، وهو ما لا يمكن أن يكون قد غاب عن ذهن البنتاغون؛ كما أن من طبائع الولايات المتحدة المماطلة بتنفيذ التزاماتها، خاصة عندما يتعلق الأمر بانسحاب عسكري من ساحات الصراع والحروب، إلا إن تكون مهزومة مضطرة، أو لم تعد لها مصلحة بالبقاء، كما عبّر عن ذلك وزير خارجيتها.

أفغانستان بلاد واسعة، قليلة السكان بالقياس لمساحتها، معقدة التضاريس، متعددة القوميات والإثنيات (بينها أقلية عربية)، وتعود بقدر كبير إلى أصول طورانية تركية، وهي متعددة الأديان والمذاهب، تحدها 6 دول، بينها دولتان نوويتان هما الصين وباكستان، ومشروع دولة نووية غير عسكرية (إيران)، وتحدها من الشمال كازاخستان الدولة الإسلامية الآسيوية (السوفيتية سابقاً) المحادة لروسيا الاتحادية الآن.

وبقيت أفغانستان في حالة حرب، أهلية أو خارجية (أو كلتاهما)، واحتلالات ونزاعات منذ 4 عقود ونيف، وليس متوقعاً الخروج من هذه الدائرة، بل على النقيض من ذلك يتوقع استثمار هذا الواقع لصالح الامبريالية وضد دول بعينها.

وتبدو روسيا الآن على وشك التورط بشكل غير مباشر مجدداً في أفغانستان، فقد خلق الانسحاب الأمريكي السريع حالة فراغ مفاجئ مطلوب عبأته طالبان على الفور، وهو انسحاب سريع، وسقوط مثله للدولة (القائمة التابعة لأمريكا)، وتعبئة فراغ أسرع لم يكن مجانياً (أقصد بتقاسيمه الثلاث “الانسحاب والسقوط والاستيلاء على الدولة” أن يكون كذلك).

ولم يقصد مما حدث الاستيلاء على الدولة الأفغانية ككل، واحتكار السلطة فيها فحسب، بل هو مسار يستهدف استباق أية متغيرات قد تحول دون تحقيق المصالح الأمريكية الغربية التي تتجاوز حدود أفغانستان، وتهدد الاستقرار في المنطقة هناك، ابتداء بـ كازاخستان الدولة الإسلامية المجاورة شمالاً (المحادة لروسيا).

بل يتعدى ما حدث إلى استهداف روسيا والصين وإيران، الدول (الخارجة) على الامبريالية العالمية، والتي حدّت من النفوذ الامبريالي وأحادية القطبية، اقتصاديا وعسكريا ودبلوماسياً، وحالت دون مرور “الربيع” الأمريكي الإخواني الوهابي في المنطقة العربية على نحو ما يشاء.

التطمينات الطالبانية ليست بريئة ولا مجانية، ولكنها للإحاطة بالقلق من هذه التطورات، وصولاً لاسترخاء المستهدفين، ريثما تتوضع الحالة الجديدة والتحرك شرقاً وغربا وقبلهما شمالاً، وإشغال موسكو وبكين وطهران في شؤونها الداخلية بعيدا عن المنطقة العربية وعن التوسع في كل الاتجاهات الإقليمية والعالمية، بعد فشل الربيع الأمريكي في تحقيق أهدافه البعيدة وسقوط الحصارات الاقتصادية وفشل تحريك الشوارع الداخلية للانقلاب على تلك الأنظمة، أو قلبها، كما فشلت محاولات الاستيعاب.

وتتضمن الخطة الامبريالية الجديدة، الدخول في (حروب) مباشرة متعددة الأوجه ضد الدول (المارقة)، واستغلال أقليات دينية وإثنية وقومية داخلها وبالقرب منها وفي محيطها، لإضعافها اقتصاديا وعسكريا وسياسيا، واستعادة زمام المبادرة التي بدأت دول الغرب يفقدانها في السنوات الأخيرة، وإقصائها عن التأثير في المنطقة العربية وغيرها – وهو التأثير الآخذ بالتوسع – ومحاصرة النفوذ الغربي، بدل إنجاح الحصارات الغربية ضدها، والذي أخذ يحاصر الامبريالية باعتماد الدول (المارقة) على الذات واجتراح نجاحات تحاصر الحصارات الظالمة.

وسسيكون اللاجئون الأفغان الذين يمتون بصلات إثنية للطورانية التركية، وبمساعدة من نظام حكم أردوغان، ورقة استغلال جديدة في المنطقة هناك، ستنعكس سلباً على المنطقة هنا على شكل مرتزقة وعملاء استخباريين ومترفي مخدرات وتهريب بأنواعه وتجارة بشر وتبييض عملات ومافيات، سيسلطون على بلدان مارقة بعينها وحليفة لها، لإنهاكها وإنجاح مخططاتها ضدها، بأقل الأكلاف،في أدوار شبيهة لـ داعش والنصرة والقاعدة وأضرابها..

من يتابع بيانات طالبان يدرك تماماً أنها ليست تماما من إبداعاتها، وأنه مطلوب منها استدراك خطايا ما وقعت به داعش وأضرابها، بأمل أن تنجح بأكثر مما نجحت مثيلتها، ما أفقدها بطانات حاضنة اسبشرت ابتداءً بها خيراً، في غياب المرجعيات والقيم الناظمة والوضوح وصدق الانتماء.. لكن ممارساتها التطبيقية أفقدها التعاطفات، إلى جانب ما تتمتع به غالبية الشعب من انتماء وقيم.

بعد وقت ليس بعيد، سيتضح عبر التدفقات الحاصلة للاجئين (الأفغان) بسهولة ما يفقد دول الجوار الأمن والاستقرار، وقد يدفع تقدم طالبان السريع هذا إلى نشوء حالةٍ من الهوس التوسعي المخطط له جيداً.

ولن يقتصر الخطر باتجاه الشمال فحسب، بل وبإتجاه الشرق (الصين الشعبية) مع الأخذ بعين الاعتبار وجود قومية الأويغور الصينية المسلمة، وستكون فرصة (مصنّعة) غير بريئة؛ كما سيتوجه الخطر شرقاً بإتجاه إيران.. عدوة الصهيونية العالمية التي تحلم بتحرير القدس، وتدعم المقاومات العراقية واللبنانية والفلسطينية واليمنية، وتدعم سورية بمواجهة العصابات الإرهابية، الى جانب كل من الاتحاد الروسي (الذي يدعم عسكريا ودبلوماسيا)، والصين التي تدعم سورية دبلوماسيا، وربما في مجال الاقتصاد (بما أسقطتا من مشاريع قرارات أمريكية غربية باستخدام حق النقض).

لقد تجاوزت هذه الدول إمكانية إسقاطها رغم كل المحاولات، فالصين أصبحت الدولة الأولى اقتصاديا في العالم، وروسيا أصبحت ربما الأقوى عسكرياً وكسرت أحادية القطبية وعدّدتها و(تلعب) على غير الهوى الأمريكي الناتوي وتحقق تقدما جيوسياسيا في المنطقة العربية وجوارها، وحتى في مناطق بأوروبا.

وإيران، رغم عقود من الحصار متعدد الأوجه، وفشل محاولات تفجير ساحتها الداخلية، والإحاطة بها من بعض دول الجوار، هي الآن أقوى مما كانت عليه قبل الحصار، وأكثر تقدماً علمياً ونوويا، وبات المعسكر الغربي (ليس على يد رجل واحد ضدها) كما كان.

لقد عجزت الحرب الأمريكية الغربية ضد الدول الثلاث عن تحقبيق أهدافها، وبات لا بد من تجريب خيارات أخرى بأمل الإحاطة بها؛ ومجيء طالبان المبرمج إلى أفغانستان ليس حباً بها، ولكن مدخلاً لحروب وفتن جديدة، وشق جديد للعالم الإسلامي من حول الخلاف حول الحالة الإسلامية الأفغانية المدعومة من تركيا أردوغان؛ وقد يكون الانشقاق هذه المرة بين صف المحسوبين على الأردوغانية وبين المحسوبين على الوهابية على نحوٍ أكثر عمقاً وشمولاً وخطراً.

m.sh..jayousi@hotmail.co.uk